تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَأَمَّا " الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ " فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فَلَا يَكْفُرُ ; فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنْ فَاءَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ عَزَمَ الطَّلَاقَ فَأَوْقَعَهُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ . فَالطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِهِ لَازِمٌ سَوَاءٌ أَمَسَكَ بِمَعْرُوفِ ; أَوْ سَرَّحَ بِإِحْسَانِ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُولِيَ مُخَيَّرٌ : إمَّا أَنْ يَفِيءَ ; وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ . فَإِذَا فَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ ; بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ; فَإِنَّ الْمُولِيَ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ إذَا فَاءَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ ; فَإِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } . فَإِنْ قِيلَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ إذَا فَاءَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَطْءِ لِلزَّوْجَةِ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَرَحِمَهُ بِذَلِكَ ؟ " قِيلَ " : هَذَا لَا يَصِحُّ . فَإِنَّ أَحَدَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا بِحَالِ ; فَإِنَّهُ إذَا أَوْلَجَ حَنِثَ وَكَانَ النَّزْعُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ لَهُ وَطْأَةُ وَاحِدَةٍ يَنْزِعُ عَقِبَهَا وَتَحْرُمُ بِهَا عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَخْتَارُ وَطْأَةً يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَقِبَهَا إلَّا إذَا كَانَتْ كَارِهَةً لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا بِهَذِهِ الْفِيئَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْجِيلِ ; بَلْ تَعْجِيلُ الطَّلَاقِ أَحَبُّ إلَيْهَا لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ لِتُبَاحَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الطَّلَاقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : كَانَ التَّأْجِيلُ ضَرَرًا مَحْضًا لَهَا وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْإِيلَاءِ الَّذِي شُرِعَ لِنَفْعِ الْمَرْأَةِ ; لَا لِضَرِّهَا . وَمَا ذَكَرْته مِنْ النُّصُوصِ قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَأَفْتَوْا مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي هَدْيٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَاكَ : بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ فَجَعَلُوا هَذَا يَمِينًا مُكَفِّرَةً ; وَكَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَجَعَلُوا كُلَّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْحَالِفُ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ فِيهِ شِبْهٌ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَشِبْهٌ مِنْ الْأَيْمَانِ ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ ; لَيْسَتْ نَذْرًا وَلَا طَلَاقًا . وَلَا عَتَاقًا وَإِنَّمَا يُسَمِّيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ النَّذْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ ; لَكِنْ هِيَ أَيْمَانٌ عَلَّقَ الْحِنْثَ فِيهَا عَلَى شَيْئَيْنِ " أَحَدُهُمَا " فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ : و " الثَّانِي " عَدَمُ إيقَاعِ الْمَحْلُوفِ بِهِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ هَذَا الْعَامَ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَأَحُجَّن هَذَا الْعَامَ وَهُوَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ إلَّا إذَا فَعَلَ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ هَذَا الْعَامَ . إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي . أَوْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي ; فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُطَلِّقْ وَلَمْ يُعْتِقْ وَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَن امْرَأَتِي وَلَأُعْتِقَن عَبْدِي . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَيَقَعَن بِي الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَلَأُوقِعَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَهُوَ إذَا فَعَلَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِذَا لَمْ يُوقِعْهُ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ ; لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ قَدْ يَكُونُ وُجُوبًا وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعًا . فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ . فَالْمُعَلَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ . وَإِذَا قَالَ : فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَالْمُعَلَّقُ وُقُوعُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُعَلَّقَ إنْ كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ كَمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ فَقَالَ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَهُنَا إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا حَالِفٌ كَمَا لَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ : فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْحَالِفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . وَقَوْلُ الذِّمِّيِّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ : هُوَ الْتِزَامٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ ; بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِلْفِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي : لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِالِاتِّفَاقِ إذَا فَعَلَهُ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُلْتَزِمَ لِأَمْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ إنَّمَا يُلْزِمُهُ بِشَرْطَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزِمُ قِرْبَةً . وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِ ; لَا الْحَلِفُ بِهِ . فَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةِ كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ . وَلَوْ الْتَزَمَ قُرْبَةً : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ : وَالْحَجِّ : عَلَى وَجْهِ الْحَلِفِ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ; بَلْ تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ; وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَهُنَا الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ هُوَ الْتَزَمَ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ ; وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يَكْرَهُ وُقُوعَ الْكُفْرِ إذَا حَلَفَ بِهِ ; وَكَمَا يَكْرَهُ وُجُوبَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ إذَا حَلَفَ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا حَالِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ؟ " فَيُقَالُ " : النَّصُّ وَرَدَ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ ; وَلِهَذَا جَعَلَهُ شِرْكًا ; لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ ; فَمَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّنْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّذْرُ أَبْلَغَ مِنْ الْيَمِينِ ; فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا عَقَدَ لِلَّهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِيمَا عَقَدَ بِاَللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .