تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ : هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
123
فَأَجَابَ : أَمَّا قَوْلُهُ لَهَا . أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِضٌ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ " أَحَدِهِمَا " أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ; فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ نِزَاعٌ وَهُوَ طَلَاقٌ بِدْعَةٍ . وَأَمَّا " طَلَاقُ السُّنَّةِ " أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا يَمَسُّهَا فِيهِ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ; فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ; أَوْ بَعْدَ مَا وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ حَمْلُهَا لَهُ : فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } . وَفِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ : أَنَّ { ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ فِيهَا النِّسَاءُ } . وَأَمَّا جَمْعُ " الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ " فَفِيهِ قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " مُحَرَّمٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ أَحْمَد : تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - يَعْنِي طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا - غَيْرَ قَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِأَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد إحْدَاهُمَا لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . " وَالثَّانِيَةُ " لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ ; بَلْ هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : اخْتَارَهَا الخرقي . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ { فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثًا وَبِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَبِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ } . وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ وَامْرَأَةِ رِفَاعَةَ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ; لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا مُجْتَمَعَاتٍ . وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ : طَلَّقَ ثَلَاثًا . يَتَنَاوَلُ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ . بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا . وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا . وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةِ فَهَذَا كَانَ مُنْكِرًا عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَقَعُ قَلِيلًا ; فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْقَلِيلِ الْمُنْكَرِ دُونَ الْكَثِيرِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يُطَلِّقُ مُجْتَمِعَاتٍ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ; بَلْ هَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ ; بَلْ هُوَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ . وَأَمَّا الْمُلَاعَنُ فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ; أَوْ بَعْدَ وُجُوبِ الْإِبَانَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِهَا الْمَرْأَةُ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجَبِ اللِّعَانِ وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ مَنْ يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهَا ; لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَقَعْ بِهَا ثَلَاثٌ وَلَا غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ . وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ بِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّهُمَا صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : حَرَّمَهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا . فَيُقَالُ : فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ; فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَأَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ تَقَعْ جَمِيعًا ; بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّهُ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا . وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : طَلَّقَهَا ثَلَاثًا . فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى إنْفَاذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتِصَاصِ الْمُلَاعَنِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلَاعِنِ اخْتِصَاصٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْفَاذٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الْمُلَاعِنَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودَهُ ; بَلْ زَادَهُ ; فَإِنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ ; إذْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ لَا يَزُولُ وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ مُؤَبَّدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ . وَاسْتَدَلَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَإِلَّا الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّجْعِيِّ . وَقَوْلُهُ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إرْدَافُ الطَّلَاقِ لِلطَّلَاقِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ يُرَاجِعَهَا ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ . أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَمَتَى طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفْهَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ خِلَاسٍ وَابْنِ حَزْمٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ; فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إضْرَارَ امْرَأَتِهِ طَلَّقَهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِيُطِيلَ حَبْسَهَا فَلَوْ كَانَ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَرَهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُسْتَأْنَفُ بِدُونِ رَجْعَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ ؟ أَوْ يَقَعُ وَلَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعِدَّةَ ؟ وَابْنُ حَزْمٍ إنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقٌ إلَّا يَتَعَقَّبُهُ عِدَّةٌ ; إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلَزِمَهُ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ . وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ بِمُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ هُوَ مَا يَتَعَقَّبُهُ الْعِدَّةُ وَمَا كَانَ صَاحِبُهُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَلَا يَكُونُ جَائِزًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لِلْعِدَّةِ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهَا تَقْضِي الْعِدَّةَ فَيُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَانِيَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يُمْسِكْ بِمَعْرُوفِ وَلَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حَالُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فَلَمْ يُشَرِّعْ إلَّا هَذَا الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } أَيْ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ ( مَرَّتَانِ . وَإِذَا قِيلَ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطِقَ بِالتَّسْبِيحِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ : طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ مَرَّتَيْنِ : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ : طَلَّقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ; وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ طَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ ; ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ " { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَهَذِهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَيْنِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } الْآيَةَ . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ : مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; وَالْآثَارُ وَالِاعْتِبَارُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ " الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ " وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ : فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً فَيَأْتِيه الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا ; حَتَّى يَأْتِيَهُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ : مَازِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ; فَيُدْنِيه مِنْهُ ; وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ وَيَلْتَزِمُهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ السِّحْرِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِوَاحِدَةٍ فَمَا زَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْحَظْرِ .