تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ الْمُقْتَضِي لِكِتَابَةِ هَذَا : أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ كَانَ قَدْ سَأَلَنِي لِأَجْلِ نِسَائِهِ مِنْ مُدَّةٍ : هَلْ تَرَى الْمُؤْمِنَاتُ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ ؟
12
فَأَجَبْت بِمَا حَضَرَنِي إذْ ذَاكَ : مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ وَذَكَرْت لَهُ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ وَأَنَّ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ تَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ ; وَأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ حَسَبَ التَّتَبُّعِ ; وَمَا لَمْ يَحْضُرْنِي السَّاعَةَ . وَكَانَ قَدْ سَنَحَ لِي فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ " الْمُعْتَادَةَ الْعَامَّةَ فِي الْآخِرَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ الصَّلَوَاتِ الْعَامَّةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ قَدْ شُرِعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَتَرَائِيِهِ بِالْقُلُوبِ وَالتَّنَعُّمِ بِلِقَائِهِ فِي الصَّلَاةِ كُلَّ جُمُعَةٍ جَعَلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ اجْتِمَاعًا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لِمُنَاجَاتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ وَالتَّمَتُّعِ بِلِقَائِهِ . وَلَمَّا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ النِّسَاءَ يُؤْمَرْنَ بِالْخُرُوجِ فِي الْعِيدِ حَتَّى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَكَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ عَامَّةُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْعِيدِ جُعِلَ عِيدُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى مِقْدَارِ عِيدِهِنَّ فِي الدُّنْيَا . وَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدِي مَا خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ { جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا . ثُمَّ قَرَأَ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَرَأَيْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَعْقِيبَ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ ; أَوْ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ بِحَرْفِ الْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ ; لَا سِيَّمَا وَمُجَرَّدُ التَّعْقِيبِ هُنَا مُحَالٌ ; فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ التَّحْضِيضِ عَلَى الصَّلَاتَيْنِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَالتَّحْضِيضُ مَوْجُودٌ قَبْلَهَا فِي الدُّنْيَا . وَالتَّعْقِيبُ الَّذِي يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ لَا يَعْنُونَ بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ بِالثَّانِي يَكُونُ بَعْدَ الْأَوَّلِ ; فَإِنَّ هَذَا مَوْجُودٌ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهَا وَبِسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مَعْنَى أَنَّ التَّلَفُّظَ الثَّانِيَ يَكُونُ عَقِبَ الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْت : قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو أَفَادَ أَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ عَقِبَ قِيَامِ زَيْدٍ ; لَا أَنْ مُجَرَّدَ تَكَلُّمِ الْمُتَكَلِّمِ بِالثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ وَهَذَا مِمَّا هُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إذَا قِيلَ : هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فَأَكْرِمْهُ فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاحَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِإِكْرَامِهِ حَتَّى لَوْ رَأَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا لَقِيلَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ وَهَذَا أَيْضًا رَجُلٌ صَالِحٌ أَفَلَا تُكْرِمْهُ ؟ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ [ فَلَا بُدَّ ] أَنْ يُخْلَفَ الْحَكَمُ لِمُعَارِضِ وَإِلَّا عُدَّ تَنَاقُضًا . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِكَلِمَةِ طَيِّبَةٍ } فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ تَحْضِيضَهُ عَلَى اتِّقَاءِ النَّارِ هُنَا لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ يَسْتَقْبِلُونَهَا وَقْتَ مُلَاقَاةِ الرَّبِّ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ آخَرُ . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كُثُبِ الْكَافُورِ فَيَكُونُونَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ " فَهِمَ النَّاسُ مِنْ هَذَا أَنَّ طَلَبَ هَذَا الثَّوَابِ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى الْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ : إنَّ الْأَمِيرَ غَدًا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ فَلْيَحْضُرْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحُضُورِ لِأَخْذِ النَّصِيبِ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ قِسْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ . ثُمَّ إنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ " تَارَةً يَكُونُ سَبَبًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْعَقْلِ وَفِي الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } " وَتَارَةً " يَكُونُ حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِك : الْأَمِيرُ يَحْضُرُ غَدًا فَإِنْ حَضَرَ كَانَ حُضُورُ الْأَمِيرِ يُتَصَوَّرُ وَيُقْصَدُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ . وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ وَهَذِهِ تُسَمَّى الْعِلَّةَ الغائية وَتُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ حِكْمَةَ الْحُكْمِ وَهِيَ سَبَبٌ فِي الْإِرَادَةِ بِحُكْمِهَا وَحُكْمُهَا سَبَبٌ فِي الْوُجُودِ لَهَا . وَ " التَّعْلِيلُ " تَارَةً يَقَعُ فِي اللَّفْظِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ الْمَوْجُودَةِ فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْمَعْلُولِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا الْعِلَّةُ طَلَبُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ وَإِرَادَتُهَا . وَطَلَبُ الْعَافِيَةِ وَإِرَادَتُهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى طَلَبِ أَسْبَابِهَا الْمَفْعُولَةِ وَأَسْبَابُهَا الْمَفْعُولَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا فِي الْوُجُودِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرٌ . كَمَا قِيلَ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَيُقَالُ : إذَا حَجَجْت فَتَزَوَّدْ . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاتَيْنِ } إلَى : فَافْعَلُوا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا هُنَا لِأَجْلِ ابْتِغَاءِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ سَبَبٌ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ تُوجِبُ ثَوَابًا آخَرَ وَيُؤْمَرُ بِهَا لِأَجْلِهِ وَأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ الثَّوَابِ وَأَنَّ لِلرُّؤْيَةِ سَبَبًا آخَرَ ; لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَلِ وَاقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِأَحْكَامِ جَائِزٌ . وَهَكَذَا غَالِبُ أَحَادِيثِ الْوَعْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَقَوْلِهِ : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ; فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ صَلَاةَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سَبَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ وَإِنْ كَانَ لِلْمَغْفِرَةِ أَسْبَابٌ أُخَرُ . وَأَيَّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَقَدْ فُسِّرَ هَذَا الدُّعَاءُ بِصَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَلِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ بِهَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَتَحْضِيضُهُمْ عَلَى هَاتَيْنِ يُنَاسِبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ وَجْهَهُ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . ثُمَّ لَمَّا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ فِي وَقْتِهَا وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ اللَّتَانِ هُمَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتُهُمَا أَفْضَلُ الْأَوْقَاتِ فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ : الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهَا أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِأَفْضَلِ الثَّوَابَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ . لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ ثوير بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لِمَنْ يَنْظُرُ إلَى جَنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا - ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } . } قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ ثوير عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ عَنْ ثوير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الأشجعي عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ثوير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ : وَلَمْ يَرْفَعْهُ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِيهِ مُجَاهِدًا غَيْرَ ثوير وَأَظُنُّهُ قَدْ قِيلَ : فِي قَوْلِهِ : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أَنَّ مِنْهُ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الدارقطني فِي " الرُّؤْيَةِ " : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَاسِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الضبي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمِصْرِيُّ عَنْ عَبَّادٍ المنقري عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سياه عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ هَذِهِ الْآيَةَ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قَالَ : وَاَللَّهِ مَا نَسَخَهَا مُنْذُ أَنْزَلَهَا يَزُورُونَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيُطْعَمُونَ وَيُسْقَوْنَ ويطيبون وَيُحْمَلُونَ وَيُرْفَعُ الْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } . } وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ " وَقَالَ : هَذَا لَا يَصِحُّ ; فِيهِ مَيْمُونُ بْنُ سياه . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ وَفِيهِ صَالِحٌ الْمِصْرِيُّ قَالَ النسائي : مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ . قُلْت : أَمَّا مَيْمُونُ بْنُ سياه فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ والنسائي وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرازي : ثِقَةٌ وَحَسْبُك بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ فِيهِ : ضَعِيفٌ ; لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقُولُهُ ابْنُ مَعِينٍ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الثِّقَاتِ . وَأَمَّا كَلَامُ ابْنِ حِبَّانَ فَفِيهِ ابْتِدَاعٌ فِي الْجَرْحِ . فَلَمَّا كَانَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَعْدُ أَعْلَاهُمْ " غُدْوَةً وَعَشِيًّا " وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ جَعَلَ صَلَاتَيْ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ سَبَبًا " لِلرُّؤْيَةِ " وَصَلَاةَ الْجُمُعَةِ سَبَبًا " لِلرُّؤْيَةِ " فِي وَقْتِهَا ; مَعَ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الرُّؤْيَةِ كَانَ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ فِي وَقْتِهِمَا فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا قَدْ سَنَحَ لِي وَالنِّسَاءُ يُشَارِكْنَ الرِّجَالَ فِي سَبَبِ الْعَمَلِ فَيُشَارِكُونَهُمْ فِي ثَوَابِهِ وَلَمَّا انْتَفَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْجُمُعَةِ انْتَفَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّظَرِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمَّا حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْعِيدِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي ثَوَابِهِ . ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَى كَلَامٌ فِي هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " وَكُنْت قَدْ نَسِيت مَا ذَكَرْته أَوَّلًا ; لَا بَعْضَهُ فَاقْتَضَى ذِكْرَ مَا ذَكَرْته أَوَّلًا فَقِيلَ لِي : الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ سَبَبِ " الرُّؤْيَةِ " ; لَا أَنَّهُ جَمِيعُ السَّبَبِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّاهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّؤْيَةَ . وَقِيلَ لِي : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ سَبَبًا لِلرُّؤْيَةِ فِي الْجُمُعَةِ ; كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ يَرَاهُ مَرَّتَيْنِ ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُحَافِظُونَ عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَعْلَاهُمْ ؟ . فَقُلْت : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ هُوَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَةِ لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْقَاعِدَةِ فِي النِّسَاءِ آنِفًا ; ثُمَّ قَدْ يَتَخَلَّفُ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِمَانِعِ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَائِهِ كَسَائِرِ أَحَادِيثِ الْوَعْدِ ; فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ : { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " مَنْ فَعَلَ كَذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ لِكُفْرِ أَوْ فِسْقٍ . فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْوَعْدِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ كَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الْوَعِيدِ إذَا قِيلَ : مَنْ فَعَلَ كَذَا دَخَلَ النَّارَ ; فَإِنَّ الْمُقْتَضَى يَتَخَلَّفُ عَنْ التَّائِبِ وَعَمَّنْ أَتَى بِحَسَنَاتِ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرُّؤْيَةِ سَبَبٌ آخَرُ فَكَوْنُهُ سَبَبًا لَا يَمْنَعُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْهُ لِمَانِعِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَصِبَ سَبَبٌ آخَرُ لِلرُّؤْيَةِ . ثُمَّ أَقُولُ : فِعْلُ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ السَّبَبِ أَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي هَذَا السَّبَبِ : فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِبَقِيَّةِ شُرُوطِ الْوَعْدِ وَانْتَفَتْ عَنْهُ مَوَانِعُهُ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : فَالْأُنُوثَةُ مَانِعٌ مِنْ لُحُوقِ الْوَعْدِ أَوْ الذُّكُورَةُ شَرْطٌ ; لِأَنَّ هَذَا إنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ شَرْطٌ قُلْنَا بِهِ فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمُوجَبِهِ بِالْإِمْكَانِ ; بَلْ مَتَى ثَبَتَ عُمُومُ اللَّفْظِ وَعُمُومُ الْعِلَّةِ وَجَبَ تَرْتِيبُ مُقْتَضَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ بِخِلَافِهِ ; وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ وَلَا أَنَّ الْأُنُوثَةَ مَانِعٌ ; كَمَا لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَالْعَجَمِيَّةَ وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " الْمُقْتَصِدِينَ " يُشَارِكُونَ " السَّابِقِينَ " فِي أَصْلِ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ امْتَازَ السَّابِقُونَ عَنْهُمْ بِدَرَجَاتِ وَمَثُوبَاتٍ أَوْ شُمُولِ الْمَعْنَى لِهَؤُلَاءِ عَلَى السَّوَاءِ فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ وَوُجُودُ السَّبَبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ إلَّا إذَا تَخَلَّفَ شَرْطُهُ أَوْ حَصَلَتْ مَوَانِعُهُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ تَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ . وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ عَلَى كَوْنِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبًا لِلرُّؤْيَةِ فِي الْجُمْلَةِ - وَلَوْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ - فَيُقَالُ : ذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنَّ النِّسَاءَ يَرَيْنَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ . ثُمَّ يُقَالُ : مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحْصُلُ وَقْتَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَسَبَبُهَا صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كَانَ هَذَا ظَاهِرًا فِيمَا قُلْنَاهُ . وَالْمُدَّعَى الظُّهُورُ ; لَا الْقَطْعُ . وَأَمَّا كَوْنُ " الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ " لِأَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَنْ صَلَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَيْسَ هَذَا بِدَافِعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; لِأَنَّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مُمْكِنَةٌ بِهِ يَخْرُجُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا ; لَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْهَا . يُمْكِنُ السَّبَبَ فِعْلُ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ; لَا صَلَاةِ أَكْثَرِ النَّاسِ . أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا رُبُعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا - حَتَّى قَالَ - : عُشْرُهَا } رَوَاهُ أَبُو داود فَالصَّلَاةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ سَبَبُ الثَّوَابِ وَالصَّلَاةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ لِصَاحِبِهَا وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُصَلِّينَ مَنْ لَا يُكْتَبُ لَهُ إلَّا بَعْضُهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُصَلِّي مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ مَنْ تَقَبَّلَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَكَتَبَهَا لَهُ كُلَّهَا . وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكَادُ يَنْدَرِجُ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الصِّدِّيقُونَ أَوْ قَلِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالنِّسَاءُ مِنْهُنَّ صِدِّيقَاتٌ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ نَوَافِلُ يَجْبُرُ بِهَا نَقْصَ صِلَاتِهِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ : { إنَّ النَّوَافِلَ تَجْبُرُ الْفَرَائِضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَوْجُودُونَ بِهَذَا أَكْثَرَ الْمُصَلِّينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ بَعْضَهَا عَنْ وَقْتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ بَعْضَهَا وَسَائِرُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا لَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّ كُلَّ مَنْ صَلَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ نَالَ هَذَا الثَّوَابَ لَأَمْكَنَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ نَافِيًا لِهَذَا ; إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَيَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّاتِ الْخَمْسِ الْبَاقِيَةِ وَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ أَعْلَى بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ تَحْتَهُمْ وَبَعْضُ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ . لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ " الْمَرَّتَيْنِ " يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي إسْنَادِهِ