تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
" الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ " - وَفِيهَا يَظْهَرُ سِرُّ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا - أَنَّ صِيغَةَ التَّعْلِيقِ الَّتِي تُسَمَّى " صِيغَةَ الشَّرْطِ وَصِيغَةَ الْمُجَازَاةِ " تَنْقَسِمُ إلَى " سِتَّةِ أَنْوَاعٍ " لِأَنَّ الْحَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ وُجُودَ الْجَزَاءِ فَقَطْ أَوْ وَجُودَهُمَا ; وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْصِدَ وُجُودَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ الْجَزَاءِ فَقَطْ أَوْ عَدَمُهُمَا . فَالْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَنَذْرِ التَّبَرُّرِ ; وَالْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ . إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ فَقَدْ خَلَعْتُك . أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ أَدَّيْت أَلْفًا فَأَنْت حُرٌّ أَوْ قَالَ . إنْ رَدَدْت عَبْدِي الْآبِقَ فَلَك أَلْفٌ أَوْ قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ : فَعَلَيَّ عِتْقُ كَذَا ; وَالصَّدَقَةُ بِكَذَا : فَالْمُعَلِّقُ قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ وَرَدَّ الْعَبْدِ وَسَلَامَةَ الْعِتْقِ وَالْمَالِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ كَالْبَائِعِ الَّذِي إنَّمَا مَقْصُودُهُ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْتَزَمَ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ . فَهَذَا الضَّرْبُ شَبِيهٌ بِالْمُعَاوَضَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقُ عُقُوبَةً لَهَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إذَا ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْت طَالِقٌ فَإِنَّهُ فِي الْخُلْعِ عَاوَضَهَا بِالتَّطْلِيقِ عَنْ الْمَالِ لِأَنَّهَا تُرِيدُ الطَّلَاقَ وَهُنَا عَوَّضَهَا عَنْ مَعْصِيَتِهَا بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا " الثَّانِي " فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا طَهُرْت فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ : إذَا مُتّ فَأَنْت حُرٌّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ فَأَنْت حُرٌّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ تَوْقِيتٌ مَحْضٌ . فَهَذَا الضَّرْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْجَزِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ الطَّلَاقَ وَالْعِتَاقَ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَنْزِلَةِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الطَّلَاقَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ لِغَرَضِ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ ; لَا لِعِوَضِ وَلَا لِحَثِّ عَلَى طَلَبٍ أَوْ خَبَرٍ ; وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ بِطَلَاقِك أَوْ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْت طَالِقٌ . فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ دَخَلْت أَوْ لَمْ تَدْخُلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْحَضِّ أَوْ الْمَنْعِ فَهُوَ حَالِفٌ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا كَقَوْلِهِ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَاخْتَلِفُوا فِيهِ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَالِفِ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ " : هُوَ حَالِفٌ . وَأَمَّا " الثَّالِثُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُمَا جَمِيعًا فَمِثْلُ الَّذِي قَدْ آذَتْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَحَبَّ طَلَاقَهَا وَاسْتِرْجَاعَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا فَيَقُولُ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك أَوْ مِنْ نَفَقَتِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يُرِيدُ كُلًّا مِنْهُمَا . وَأَمَّا " الرَّابِعُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ إذَا وُجِدَ لَمْ يَكْرَهْ الْجَزَاءَ ; بَلْ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَكْرَهُهُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنْ زَنَيْت فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ إنْ ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْت طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ عَدَمُ الشَّرْطِ ; وَيُقْصَدُ وُجُودُ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ إذَا زَنَتْ أَوْ إذَا ضَرَبَتْ أُمَّهُ يَجِبُ فِرَاقُهَا لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ ; فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ الْفِعْلِ وَقَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ كَمَا قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا أَوْ عِنْدَ طُهْرِهَا أَوْ طُلُوعِ الْهِلَالِ . وَأَمَّا " الْخَامِسُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْجَزَاءِ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِئَلَّا يُوجَدُ ; وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي عَدَمِ الشَّرْطِ : فَهَذَا قَلِيلٌ كَمَنْ يَقُولُ إنْ أَصَبْت مِائَةَ رَمْيَةٍ أَعْطَيْتُك كَذَا . وَأَمَّا " السَّادِسُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ; وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ لِيَمْتَنِعَ وَجُودُهُمَا فَهُوَ مِثْلُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ . وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ عَلَى حَضٍّ أَوْ مَنْعٍ أَوْ تَصْدِيقٍ أَوْ تَكْذِيبٍ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ; تَصَدَّقْ . فَيَقُولُ : إنْ تَصَدَّقَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ كَذَا وَكَذَا أَوْ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ . أَوْ يَقُولَ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ . أَوْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقْصِدُ مَنْعَهُ - كَعَبْدِهِ وَنَسِيبِهِ وَصَدِيقِهِ مِمَّنْ يَحُضُّهُ عَلَى طَاعَتِهِ - فَيَقُولُ لَهُ : إنْ فَعَلْت أَوْ إنْ لَمْ تَفْعَلْ : فَعَلَيَّ كَذَا ; أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ; أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ . وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ يُخَالِفُهُ فِي الْمَعْنَى " نَذْرُ التَّبَرُّرِ وَالتَّقَرُّبِ " وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ " الْخُلْعِ " و " الْكِتَابَةِ " ; فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَوْ سَلَّمَ مَالِي مِنْ كَذَا أَوْ إنْ أَعْطَانِي اللَّهُ كَذَا ; فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ ; أَوْ أَصُومَ ; أَوْ أَحُجَّ . قَصْدُهُ حُصُولُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْغَنِيمَةُ أَوْ السَّلَامَةُ ; وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ ; وَكَذَلِكَ الْمُخَالِعُ وَالْمَكَاتِبُ قَصْدُهُ حُصُولُ الْعِوَضِ وَبَذْلُ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا النَّذْرُ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إذَا قِيلَ لَهُ : افْعَلْ كَذَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ ثُمَّ قَالَ : إنْ فَعُلْته فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الصِّيَامُ . فَهُنَا مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ ; ثُمَّ إنَّهُ لِقُوَّةِ امْتِنَاعِهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إنْ فَعَلَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهِ ; لِيَكُونَ لُزُومُهَا لَهُ إذَا فَعَلَ مَانِعًا لَهُ مِنْ الْفِعْلِ ; وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ; أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ; إنَّمَا مَقْصُودُهُ الِامْتِنَاعُ وَالْتَزَمَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ مَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِ أَهْلِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ ; لَيْسَ غَرَضُ هَذَا أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِعِتْقِ أَوْ صَدَقَةٍ وَلَا أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ . وَلِهَذَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا " نَذْرَ اللَّجَاجِ ; وَالْغَضَبِ " مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ " { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } " فَصُورَةُ هَذَا النَّذْرِ صُورَةُ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي اللَّفْظِ ; وَمَعْنَاهُ شَدِيدُ الْمُبَايَنَةِ لِمَعْنَاهُ . وَمِنْ هنا نَشَأَتْ " الشُّبْهَةُ " الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي هَذَا الْبَابِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ; وَيَتَبَيَّنُ فِقْهُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لَا إلَى صُوَرِهَا . إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الدَّاخِلَةُ فِي قِسْمِ التَّعْلِيقِ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَهَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْيَمِينِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ; وَبَعْضَهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ . فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ الْمَقْصُودُ حَضًّا عَلَى فِعْلٍ أَوْ مَنْعًا مِنْهُ أَوْ تَصْدِيقًا لِخَبَرِ ; أَوْ تَكْذِيبًا : كَانَ الشَّرْطُ مَقْصُودَ الْعَدَمِ هُوَ وَجَزَاؤُهُ ; كَنَذْرِ اللَّجَاجِ ; وَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ . " الْقَاعِدَةُ الْأُولَى " أَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَقَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمُرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } " فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الْأَمَانَةِ الَّذِي هُوَ الْإِمَارَةُ وَحُكْمَ الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ . وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَقْدٌ بِاَللَّهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْعُقُودِ وَأَشَدُّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْقِدُ بِاَللَّهِ ; وَلِهَذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْإِلْصَاقِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّبْطِ وَالْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ كَمَا تَنْعَقِدُ إحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي الْمُعَاقَدَةِ ; وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ عَقْدًا فِي قَوْلِهِ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } فَإِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا نَقْضًا لِعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ اللَّهُ مِنْ التَّحِلَّةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ حَلُّهَا حِنْثًا . و " الْحِنْثُ " هُوَ الْإِثْمُ فِي الْأَصْلِ فَالْحِنْثُ فِيهَا سَبَبٌ لِلْإِثْمِ لَوْلَا الْكَفَّارَةُ الْمَاحِيَةُ فَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُوجِبَ إثْمًا . وَنَظِيرُ الرُّخْصَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا الرُّخْصَةُ أَيْضًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الظِّهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ طَلَاقًا وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا فَإِنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ صَارَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُسْتَلْزِمٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ إذَا وَجَبَ التَّحْرِيمُ فَالتَّحْرِيمُ مُسْتَلْزِمٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ; وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } " وَالتَّحِلَّةُ " مَصْدَرُ حَلَّلْت الشَّيْءَ أُحِلُّهُ تَحْلِيلًا وَتَحِلَّةً كَمَا يُقَالُ كَرَّمْته تَكْرِيمًا وَتَكْرِمَةً . وَهَذَا مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْمُحَلَّلُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ أُرِيدَ الْمَصْدَرُ فَالْمَعْنَى فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحْلِيلَ الْيَمِينِ وَهُوَ حَلُّهَا الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْعَقْدِ . وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ التَّحِلَّةَ لَا تَكُونُ بَعْدَ الْحِنْثِ ; فَإِنَّهُ بِالْحِنْثِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ ; وَإِنَّمَا تَكُونُ التَّحِلَّةُ إذَا أُخْرِجَتْ قَبْلَ الْحِنْثِ لِتَنْحَلَّ الْيَمِينُ وَإِنَّمَا هِيَ بَعْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةٌ ; لِأَنَّهَا كَفَّرَتْ مَا فِي الْحِنْثِ مِنْ سَبَبِ الْإِثْمِ لِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ . فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اقْتَضَتْهُ الْيَمِينُ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي جَعَلَهَا بَدَلًا مِنْ الْوَفَاءِ فِي جُمْلَةِ مَا رَفَعَهُ عَنْهَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } . فَالْأَفْعَالُ " ثَلَاثَةٌ " إمَّا طَاعَةٌ وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ وَإِمَّا مُبَاحٌ . فَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مُبَاحًا أَوْ لَيَتْرُكَنَّهُ فَهَاهُنَا الْكَفَّارَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكَ مُحَرَّمٍ فَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِالِاتِّفَاقِ ; بَلْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ فَكَانَ الْحَالِفُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِيَمِينِهِ وَلَا كَفَّارَةَ لَهُ تَرْفَعُ عَنْهُ مُقْتَضَى الْحِنْثِ ; بَلْ يَكُونُ عَاصِيًا مَعْصِيَةً لَا كَفَّارَةَ فِيهَا سَوَاءٌ وَفَّى أَوْ لَمْ يَفِ كَمَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ فِي نَذْرِهِ كَفَّارَةً ; وَكَمَا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ طَاعَةٍ غَيْرَ وَاجِبَةٍ .