تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَطَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ ; وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ; وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ النَّارِ وَبِهِ هَدَى اللَّهُ الْخَلْقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } فَالْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ تَقُومُ بِالرُّسُلِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ قَبُولُهُ وَإِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَتَحَاكَمُ جَمِيعُ الْخَلْقِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَصُولُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ لَا يَجِبُ أَنْ يَنْفَرِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعِلْمِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ ; بَلْ عِلْمُ الدِّينِ الَّذِي سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَإِذَا كَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ بَلَّغَهُ هَؤُلَاءِ لِأُولَئِكَ ; وَلِهَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : هَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ سُنَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمُوا بِهَا كَمَا سَأَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لَمَّا أَتَتْهُ فَقَالَ : مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا ; وَلَكِنْ حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ . فَسَأَلَهُمْ ; فَأَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدْسَ . وَكَذَلِكَ { عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا سَأَلَهُمْ عَنْ الْجَنِينِ إذَا قُتِلَ قَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ } أَيْ مَنْ قَتَلَ جَنِينًا ضَمِنَهُ بِمَمْلُوكِ أَوْ جَارِيَةٍ لِوَرَثَتِهِ فَقَضَى بِذَلِكَ قَالُوا : وَتَكُونُ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَرُوِيَ { أَنَّهُ ضُرِبَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ } وَقَالَ { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يُلْزِمُ أَحَدًا بِقَوْلِهِ وَلَا يَحْكُمُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ ; بَلْ كَانَ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ وَيُرَاجِعُ فَتَارَةً يَقُولُ قَوْلًا فَتَرُدُّهُ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا كَمَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّدَاقَ مَحْدُودًا لَا يُزَادُ عَلَى صَدَاقَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَنْ زَادَ جُعِلَتْ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ - وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُعَجِّلُونَ الصَّدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ; لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَهُ إلَّا أَمْرًا نَادِرًا - فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ تَحْرِمُنَا شَيْئًا أَعْطَانَا اللَّهُ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ ؟ فَقَالَ : وَأَيْنَ ؟ فَقَالَتْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِهَا وَقَالَ : امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ . وَكَانَ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ مِثْلَ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ يَرَى رَأْيًا وَيَرَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْيًا وَيَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَأْيًا وَيَرَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَأْيًا ; فَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفْتِي بِقَوْلِهِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إمَامُ الْأُمَّةِ كُلُّهَا وَأَعْلَمُهُمْ وأدينهم وَأَفْضَلُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْ الْحُكَّامِ خَيْرًا مِنْ عُمَرَ . هَذَا إذَا كَانَ قَدْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةِ اجْتِهَادٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَا قَالَهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ; وَإِنَّمَا يَقُولُهُ مِثْلُهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ; وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِالْعَادَاتِ الَّتِي تَرَبَّوْا عَلَيْهَا كَاَلَّذِينَ قَالُوا : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وَكَمَا تَحْكُمُ الْأَعْرَابُ بِالسَّوَالِفِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ وَهِيَ عَادَاتٌ كَمَا يَحْكُمُ التتر " بالياسق " الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَاتُهُمْ وَأَمَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ فَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الظَّالِمُ ; وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ ; بَلْ أَمَرَ بِحُكْمَيْنِ ; وَأَنْ [ لَا ] يَكُونَا مُتَّهَمَيْنِ ; بَلْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا } أَيْ الْحَكَمَيْنِ { يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } أَيْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ . فَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ جَمَعَا وَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا فَرَّقَا : إمَّا بِعِوَضِ تَبْذُلُهُ الْمَرْأَةُ فَتَكُونُ الْفُرْقَةُ خُلْعًا إنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الظَّالِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ حَكَمَانِ كَمَا سَمَّاهُمَا اللَّهُ حَكَمَيْنِ يَحْكُمَانِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا وَقِيلَ هُمَا وَكِيلَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ . فَهُنَا لَمَّا اشْتَبَهَ الْحَقُّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ الْحُكْمَ لِوَاحِدِ وَهُوَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ . وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . هَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ فِيهِ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا عَرَفُوا شَرْعَ نَبِيِّهِمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَقُولُونَ عِنْدَنَا عِلْمٌ مِنْ الرَّسُولِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يُجْمَعُونَ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ كَانَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ لَهُمْ أَجْرَانِ وَالْآخَرُونَ لَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . " وَوَلِيُّ الْأَمْرِ " إنْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يَقُولُ هَذَا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ حَكَمَ بِهِ ; وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا تَرَكَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ كُلٌّ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ ; وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِقَبُولِ قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا . وَإِذَا خَرَجَ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَنْ هَذَا فَقَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَوَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَّا وَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ } وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الدُّوَلِ كَمَا قَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ جَعَلَهُ يَعْتَبِرُ بِمَا أَصَابَ غَيْرَهُ فَيَسْلُكُ مَسْلَكَ مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ وَيَجْتَنِبُ مَسْلَكَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَهَانَهُ ; فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَنَصْرُهُ هُوَ نَصْرُ كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَرَسُولِهِ ; لَا نَصْرُ مَنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ دَيِّنًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِخِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِذَا حَكَمَ بِلَا عَدْلٍ وَلَا عِلْمٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَهَذَا إذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِشَخْصِ . وَأَمَّا إذَا حَكَمَ حُكْمًا عَامًّا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةَ سُنَّةً وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا وَنَهَى عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَرَ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ : فَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ . يَحْكُمُ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .