مسألة تالية
متن:
فَالْمُسْلِمُونَ : سُنِّيُّهُمْ وَبِدْعِيُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ; وَلَا يُعَذَّبُ وَعَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُ الْإِيمَانِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَتَنَازُعُهُمْ بَعْدَ هَذَا فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْوَعِيدِ أَوْ بَعْضِ مَعَانِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ أَمْرٌ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ الْبَيِّنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَعْرُوفُونَ بِالْبِدْعَةِ ; مَشْهُودٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ ; لَيْسَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ وَلَا قَبُولٌ عَامٌّ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ تَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ; وَلَكِنْ يَجِبُ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَالرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " يُوجِبُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاسْمَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهُ وَاجِبًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا . فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَجَعَلَ الدِّينَ وَأَهْلَهُ " ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ " : أَوَّلُهَا : الْإِسْلَامُ وَأَوْسَطُهَا الْإِيمَانُ وَأَعْلَاهَا الْإِحْسَانُ وَمَنْ وَصَلَ إلَى الْعُلْيَا فَقَدْ وَصَلَ إلَى الَّتِي تَلِيهَا . فَالْحَسَنُ مُؤْمِنٌ وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ ; وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا . وَهَكَذَا جَاءَ الْقُرْآنُ فَجَعَلَ الْأُمَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَدَّى الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ ; وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْمُحْسِنُ الَّذِي عَبَدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْسِيمَ النَّاسِ فِي الْمَعَادِ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي سُورَةِ ( الْوَاقِعَةِ ) وَ ( الْمُطَفِّفِينَ ) و ( هَلْ أَتَى ) وَذَكَرَ الْكُفَّارَ أَيْضًا وَأَمَّا هُنَا فَجَعَلَ التَّقْسِيمَ لِلْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي : مِمَّا أَكْثَرُ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ الخطابي : وَقَدْ تَكَلَّمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ وَصَنَّفَ عَلَيْهِ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدَ أَوْرَاقِهِ الْمِائَتَيْنِ . قَالَ الخطابي : وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَا يُطْلَقَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَإِذَا حَمَلْت الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَك تَأْوِيلُ الْآيَاتِ وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا . قُلْت : الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا الخطابي أَظُنُّ أَحَدَهُمَا - وَهُوَ السَّابِقُ - مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ فَإِنَّهُ الَّذِي عَلَّمْته بَسْطَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمَا عَلِمْت لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ بَسْطًا فِي هَذَا . وَالْآخَرُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَظُنُّهُ . لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى رَدِّهِ ; وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الخطابي هُوَ قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَأَبِي جَعْفَرٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ; وَلَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خَالَفَ هَؤُلَاءِ فَجَعَلَ نَفْسَ الْإِسْلَامِ نَفْسَ الْإِيمَانِ ; وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الخطابي . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ التيمي الأصبهاني وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ شَارِحُ " مُسْلِمٍ " وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى السَّارِقِ وَالزَّانِي اسْمُ مُؤْمِنٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَقَدْ ذَكَرَ الخطابي : فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ كَلَامًا يَقْتَضِي تَلَازُمَهُمَا مَعَ افْتِرَاقِ اسْمَيْهِمَا وَذَكَرَهُ
البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " فَقَالَ : قَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ الْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ أَوْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلُ الْجُمْلَةِ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٍ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } وَالتَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ يَتَنَاوَلُهُمَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا ; يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وقَوْله تَعَالَى { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } فَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ . قُلْت : تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنَّ الْأَعْلَى هُوَ الْإِحْسَانُ وَالْإِحْسَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْعَكْسِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مُسَمَّى هَذَا لَيْسَ مُسَمَّى هَذَا لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الدَّلَالَةَ تَخْتَلِفُ بِالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَمَنْ فَهِمَ هَذَا انْحَلَّتْ عَنْهُ إشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ حَادَّ عَنْهَا طَوَائِفُ - " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ " وَغَيْرِهَا - وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ مُطْلَقًا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ لَيْسَ اسْمُهُ إسْلَامًا وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ ; وَلَوْ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ ; { وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } إلَى آخِرِهِ . قَالَ : هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إلَيْهِمَا الْأَرْبَعَ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمُعْظَمَهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِحَلِّ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوْ انْحِلَالِهِ . ثُمَّ إنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ مُقَوِّمَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ وَحَافِظَاتٌ لَهُ وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَإِعْطَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ ; وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ الْكَامِلِ يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إلَّا بِقَيْدِ وَلِذَلِكَ جَازَ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَاسْمُ " الْإِسْلَامِ " يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ " أَصْلُ الْإِيمَانِ " وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَيَتَنَاوَلُ " أَصْلَ الطَّاعَاتِ " فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ قَالَ : فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ ; وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالَ : فَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافٍ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ ; وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذَاهِبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . فَيُقَالُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ : وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَقَوْلُهُ : إنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ قَدْ يُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَابِ بِالْحَدِّ عَنْ الْمَحْدُودِ ; فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مُطَابِقًا لَهُمَا لَا لِأَصْلِهِمَا فَقَطْ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا ذَكَرَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ; لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِيمَانِ تَضَمَّنَ الْإِسْلَامَ كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : أَصْلُ الِاسْتِسْلَامِ هُوَ الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ أَسْلَمَ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ يُقْبَلُ ظَاهِرُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُشَقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ الْبَاطِنَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَهُوَ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقٍ يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَإِلَّا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ ; فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَدُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { الْإِسْلَامُ هُوَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ } لَا يَعْنِي بِهِ مَنْ أَدَّاهَا بِلَا إخْلَاصٍ لِلَّهِ بَلْ مَعَ النِّفَاقِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ فَعَلَهَا كَمَا أُمِرَ بِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَكَرَ الْخَمْسَ أَنَّهَا هِيَ الْإِسْلَامُ لِأَنَّهَا هِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَحْضَةُ الَّتِي تَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مُطِيقٍ لَهَا وَمَا سِوَاهَا إمَّا وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَصْلَحَةِ إذَا حَصَلَتْ سَقَطَ الْوُجُوبُ وَإِمَّا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَتِلْكَ تَابِعَةٌ لِهَذِهِ كَمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } { وَأَفْضَلُ الْإِسْلَامِ أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ وَتُقْرِئَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْأَرْكَانُ وَالْمَبَانِي كَمَا فِي الْإِيمَانِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الطَّاعَاتُ ثَمَرَاتُ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا لَوَازِمُ لَهُ فَمَتَى وُجِدَ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ وُجِدَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ يَكُونُ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ تَامًّا كَامِلًا وَهِيَ لَمْ تُوجَدْ وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الجهمية وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ تَصْدِيقٌ بِلَا عَمَلٍ لِلْقَلْبِ . كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالشَّوْقِ إلَى لِقَائِهِ . و ( الثَّانِي ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَهَذَا يَقُولُ بِهِ جَمِيعُ الْمُرْجِئَةِ . و ( الثَّالِثُ ) : قَوْلُهُمْ كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَأَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ والجهمية ; لِاخْتِلَاطِ هَذَا بِهَذَا فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي بَاطِنِهِ يَرَى رَأْيَ الجهمية وَالْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ مُعَظِّمٌ لِلسَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِ أَمْثَالِهِ وَكَلَامِ السَّلَفِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المروزي : وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : الْإِيمَانُ الَّذِي دَعَا اللَّهُ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَافْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَعَلَهُ دِينًا وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَدَعَاهُمْ إلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ الَّذِي سَخِطَهُ فَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ . { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } وَقَالَ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } فَمَدَحَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمِثْلِ مَا مَدَحَ بِهِ الْإِيمَانَ . وَجَعَلَهُ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَهُدًى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَمَا ارْتَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَامْتَدَحَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ رَغِبُوا فِيهِ إلَيْهِ وَسَأَلُوهُ إيَّاهُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَالَ : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا } فَحُكْمُ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ اهْتَدَى فَسَوَّى بَيْنَهُمَا . قَالَ : وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ الْحُجَّةِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ وَلَا يَتَبَايَنَانِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ غَيْرَ أَنَّا سَنَذْكُرُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُبَيِّنْ خَطَأَ تَأْوِيلِهِمْ وَالْحُجَجَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . " قُلْت " : مَقْصُودُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَمْدُوحَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَمْدُوحُ ; وَأَنَّ الْمَذْمُومَ نَاقِصُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَكُلَّ مُسْلِمٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَقْصُودُهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَإِنْ قِيلَ : هُمَا مُتَلَازِمَانِ . فالمتلازمان لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى هَذَا هُوَ مُسَمَّى هَذَا وَهُوَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ أَنَّهُ قَالَ : مُسَمَّى الْإِسْلَامِ هُوَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا نُصَّ ; بَلْ وَلَا عَرَفْت أَنَا أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُسْتَحِقَّ لِوَعْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَحِقُّ لِوَعْدِ اللَّهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا وَالْمُسْلِمُ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ . ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ : الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ بَعْضُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ فَالنُّقُول مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَقَطْ خِلَافُ ظَاهِرِ مَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا هِيَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِيهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ ; وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ أَوْ كَمَالَ الْإِيمَانِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَاكَ عَنْهُمْ فَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ . وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَغَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ . وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُثَابُ عَلَى عِبَادَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَمَا مِنْ مُسْلِمٍ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ الْكَبَائِرَ وَعَنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ التَّامَّ مُتَلَازِمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ كَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ فَلَا يُوجَدُ عِنْدَنَا رُوحٌ إلَّا مَعَ الْبَدَنِ وَلَا يُوجَدُ بَدَنٌ حَيٌّ إلَّا مَعَ الرُّوحِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَالْإِيمَانُ كَالرُّوحِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرُّوحِ وَمُتَّصِلٌ بِالْبَدَنِ وَالْإِسْلَامُ كَالْبَدَنِ وَلَا يَكُونُ الْبَدَنُ حَيًّا إلَّا مَعَ الرُّوحِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ لَا أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ ; وَإِسْلَامُ الْمُنَافِقِينَ كَبَدَنِ الْمَيِّتِ جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ فَمَا مِنْ بَدَنٍ حَيٍّ إلَّا وَفِيهِ رُوحٌ وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ مُتَنَوِّعَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَلَّى بِبَدَنِهِ يَكُونُ قَلْبُهُ مُنَوَّرًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهَكَذَا الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ حِينَ الصَّلَاةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَكُلُّ مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ وَلِهَذَا قِيلَ : : إيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعِ فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْجَسَدُ فِي عِبَادَةٍ يَكُونُ الْقَلْبُ قَائِمًا بِحَقَائِقِهَا .