مسألة تالية
متن:
وَأَمَّا " الْمَحَبَّةُ الشركية " فَلَيْسَ فِيهَا مُتَابَعَةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا بُغْضٌ لِعَدُوِّهِ وَمُجَاهَدَةٌ لَهُ كَمَا يُوجَدُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَا يُتَابِعُونَ الرَّسُولَ وَلَا يُجَاهِدُونَ عَدُوَّهُ . وَكَذَلِكَ " أَهْلُ الْبِدَعِ " الْمُدَّعُونَ لِلْمَحَبَّةِ لَهُمْ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ بِحَسَبِ بِدْعَتِهِمْ وَهَذَا مِنْ حُبِّهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَجِدُهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاةِ أَوْلِيَاءِ الرَّسُولِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الشِّرْكِ . وَاَلَّذِينَ ادَّعَوْا الْمَحَبَّةَ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَكَانَ قَوْلُهُمْ فِي الْقَدَرِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الجهمية الْمُجْبِرَةِ هُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يَشْهَدُونَ لِلرَّبِّ مَحْبُوبًا إلَّا مَا وَقَعَ وَقُدِّرَ وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَهُوَ مَحْبُوبُهُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَبْقَى فِي هَذَا الشُّهُودِ فَرْقٌ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَلَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي جَهْلٍ وَلَا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَلَا بَيْنَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ; بَلْ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْفَانِي فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ سَوَاءٌ ; وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ حَادِثٍ وَحَادِثٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ ; وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ إنَّمَا يَأْلَهُ وَيُحِبُّ مَا يَهْوَاهُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً لِلَّهِ فَقَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَهُمْ مَنْ يَهْوَاهُ ; هَذَا مَا دَامَ فِيهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ ; وَقَدْ يَنْسَلِخُ مِنْهَا حَتَّى يَصِيرَ إلَى التَّعْطِيلِ كَفِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ . وَلِهَذَا هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ بِلَا عِلْمٍ وَيُبْغِضُونَ بِلَا عِلْمٍ وَالْعِلْمُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } وَهُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَلِهَذَا كَانَ الشُّيُوخُ الْعَارِفُونَ كَثِيرًا مَا يُوصُونَ الْمُرِيدِينَ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قِطْعَةً مِنْ كَلَامِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَشَرْعٍ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَحَبَّةِ الْكُفَّارِ وَإِرَادَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ السَّالِكُونَ الْمُرِيدُونَ الصُّوفِيَّةُ وَالْفُقَرَاءُ الزَّاهِدُونَ الْعَابِدُونَ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ إنْ لَمْ يَتَّبِعُوا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ وَالْعِلْمَ الْمَوْرُوثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُحِبُّونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِلَّا أَفْضَى بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى شُعَبٍ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ إلَّا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَمَنْ نَفَى الصِّفَاتِ فَقَدْ كَذَّبَ خَبَرَهُ . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَ فِعْلُ مَا أَمَرَ وَتَرْكُ مَا حَظَرَ وَمَحَبَّةُ الْحَسَنَاتِ وَبُغْضُ السَّيِّئَاتِ وَلُزُومُ هَذَا الْفَرْقِ إلَى الْمَمَاتِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَحْسِنْ الْحَسَنَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَسْتَقْبِحْ السَّيِّئَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } . وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّتِهِ قَبْلِي إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ ; يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَأَضْعَفُ الْإِيمَانِ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ بُغْضُ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ الْمُبْتَدِعُونَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ الْمُجْمَلَةَ الْمُشْتَرَكَةَ الَّتِي تُضَاهِي مَحَبَّةَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَقُولُونَ : فُلَانٌ يُنْكِرُ وَفُلَانٌ يُنْكِرُ وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ كَثِيرًا بِمَنْ يُنْكِرُ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَيَصِيرُ هَذَا يُشْبِهُ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُحِبُّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ كَالْمُشْرِكِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّ الْأَنْدَادَ وَهَذَا كَالْيَهُودِيِّ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُبْغِضُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَلَا يُحِبُّ اللَّهَ وَلَا يُحِبُّ الْأَنْدَادَ ; بَلْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَأَمْثَالُهُ . وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَهَؤُلَاءِ يُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُضَاهَاةً لِلْيَهُودِ وَإِنَّمَا دِينُ الْإِسْلَامِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ إنْكَارُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْحَقِّ وَالتَّكْذِيبُ بِالْبَاطِلِ فَهُمْ فِي تَصْدِيقِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ مُعْتَدِلُونَ يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَاطِلِ وَيُحِبُّونَ الْحَقَّ وَيُبْغِضُونَ الْبَاطِلَ . يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَاطِلِ الْمَفْقُودِ وَيُحِبُّونَ الْحَقَّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَيُبْغِضُونَ الْمُنْكَرَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ فَلَا يُصَدِّقُونَ بِهِ وَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ وَيُحِبُّونَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) أَنَّ الْمَحَبَّةَ الشركية الْبِدْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْ هَؤُلَاءِ فِي أَنْ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ لَا يَسْتَحْسِنُوا حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُوا سَيِّئَةً ; لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَأْمُورًا وَلَا يُبْغِضُ مَحْظُورًا فَصَارُوا فِي هَذَا مِنْ جِنْسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ شَيْئًا وَيُبْغِضُ شَيْئًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الجهمية نفاة الصِّفَاتِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُثْبِتًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَفِي أَصْلِ اعْتِقَادِهِ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لَكِنْ إذَا جَاءَ إلَى الْقَدَرِ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا غَيْرَ الْإِرَادَةِ الشَّامِلَةِ وَهَذَا وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ تَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَصَارُوا مُنَاقِضِينَ لِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ كَحَالِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمَشَايِخُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْقُدَمَاءِ : مِثْلُ الجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَأَمْثَالِهِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ لُزُومًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَوْصِيَةً بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَتَحْذِيرًا مِنْ الْمَشْيِ مَعَ الْقَدَرِ كَمَا مَشَى أَصْحَابُهُمْ أُولَئِكَ وَهَذَا هُوَ " الْفَرْقُ الثَّانِي " الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الجنيد مَعَ أَصْحَابِهِ . وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَلَا يُثْبِتُ طَرِيقًا تُخَالِفُ ذَلِكَ أَصْلًا لَا هُوَ وَلَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَيُحَذِّرُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ بِدُونِ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْقَدَرَ وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَغَابُوا عَنْ الْفَرْقِ الْإِلَهِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ وَيُثْبِتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَجِبُ رِعَايَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ زَاغَ عَنْهُ فَضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ هَذَا مَنْ تَوَجَّهَ بِقَلْبِهِ وَانْكَشَفَتْ لَهُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَصَارَ يَشْهَدُ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ والقيومية الشَّامِلَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَانُ حَتَّى يَشْهَدَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَإِلَّا خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ خُرُوجِهِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . وَإِنَّمَا يَصِيرُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا حَنِيفًا مُوَحِّدًا إذَا شَهِدَ : أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِحَيْثُ لَا يُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا فِي تَأَلُّهِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَعُبُودِيَّتِهِ وَإِنَابَتِهِ إلَيْهِ وَإِسْلَامِهِ لَهُ وَدُعَائِهِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمُوَالَاتِهِ فِيهِ ; وَمُعَادَاتِهِ فِيهِ ; وَمَحَبَّتِهِ مَا يُحِبُّ ; وَبُغْضِهِ مَا يُبْغِضُ وَيَفْنَى بِحَقِّ التَّوْحِيدِ عَنْ بَاطِلِ الشِّرْكِ ; وَهَذَا فَنَاءٌ يُقَارِنُهُ الْبَقَاءُ فَيَفْنَى عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِوَى اللَّهِ بِتَأَلُّهِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي وَيَفْنَى مِنْ قَلْبِهِ تَأَلُّهَ مَا سِوَاهُ ; وَيُثْبِتُ وَيُبْقِي فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهَ اللَّهِ وَحْدَهُ ; وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ : { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مَاتَ مُسْلِمًا } . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَلَّا نَمُوتَ إلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ الصِّدِّيقُ { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَالصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ الْمَوْتَ وَلَمْ يَتَمَنَّهُ . وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ يَمُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; فَسَأَلَ الصِّفَةَ لَا الْمَوْصُوفَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ ; وَأَمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ ; وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ; مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .