مسألة تالية
متن:
وَاعْلَمْ أَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَحَيَاةَ غَيْرِهِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ أَوْ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ . قَالُوا : إنَّ حَيَاتَهُ أَنَّهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ بَلْ الْحَيَاةُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهِيَ أَيْضًا مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ فَكُلُّ حَيٍّ لَهُ شُعُورٌ وَإِرَادَةٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ بِقُدْرَةِ وَكُلُّ مَا لَهُ عِلْمٌ وَإِرَادَةٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَهُوَ حَيٌّ . وَالْحَيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَيَاةِ ; فَإِنَّ الْقَلْبَ الْحَيَّ يَكُونُ صَاحِبُهُ حَيًّا فِيهِ حَيَاءً يَمْنَعُهُ عَنْ الْقَبَائِحِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ الْقَبَائِحِ الَّتِي تُفْسِدُ الْقَلْبَ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ } وَقَالَ : { الْحَيَاءُ وَالْعَيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ . وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ } فَإِنَّ الْحَيَّ يَدْفَعُ مَا يُؤْذِيهِ ; بِخِلَافِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ [ فَإِنَّهُ ] يُسَمَّى وَقِحًا وَالْوَقَاحَةُ الصَّلَابَةُ وَهُوَ الْيُبْسُ الْمُخَالِفُ لِرُطُوبَةِ الْحَيَاةِ فَإِذَا كَانَ وَقِحًا يَابِسًا صَلِيبَ الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ تُوجِبُ حَيَاءَهُ وَامْتِنَاعُهُ مِنْ الْقُبْحِ كَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا وَطْءُ الْأَقْدَامِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ الْخَضِرَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْحَيُّ يَظْهَرُ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْقُبْحِ وَلَهُ إرَادَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ الْقُبْحِ بِخِلَافِ الْوَقِحِ الَّذِي لَيْسَ بِحَيِّ فَلَا حَيَاءَ مَعَهُ وَلَا إيمَانَ يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ . فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ حَيًّا فَمَاتَ الْإِنْسَانُ بِفِرَاقِ رُوحِهِ بَدَنَهُ كَانَ مَوْتُ النَّفْسِ فِرَاقَهَا لِلْبَدَنِ لَيْسَتْ هِيَ فِي نَفْسِهَا مَيِّتَةً بِمَعْنَى زَوَالِ حَيَاتِهَا عَنْهَا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } مَعَ أَنَّهُمْ مَوْتَى دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وَفِي قَوْلِهِ : { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } فَالْمَوْتُ الْمُثْبَتُ غَيْرُ الْمَوْتِ الْمَنْفِيِّ . الْمُثْبَتُ هُوَ فِرَاقُ الرُّوحِ الْبَدَنَ وَالْمَنْفِيُّ زَوَالُ الْحَيَاةِ بِالْجُمْلَةِ عَنْ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ فَيُسَمَّى وَفَاةً وَيُسَمَّى مَوْتًا وَإِنْ كَانَتْ الْحَيَاةُ مَوْجُودَةً فِيهِمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَعَافَانِي فِي جَسَدِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا } وَإِذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ } وَيَقُولُ : { بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا }