مسألة تالية
متن:
فَصْلٌ وَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْعِلْمِيَّةَ بِصِحَّةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ : كَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَالطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ السَّالِكَ فِي ذَلِكَ " الْمُرِيدَ " كَمَا يُسَمِّيهِ أُولَئِكَ " الطَّالِبَ " وَ " النَّظَرُ " جِنْسٌ تَحْتَهُ حُقٌّ وَبَاطِلٌ وَمَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ وَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْلُومُك الْمَعْلُومَاتِ الدِّينِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ وَيَكُونُ عِلْمُك بِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَإِلَّا فَلَا يَنْفَعُك أَيُّ مَعْلُومٍ عَلِمْته وَلَا أَيُّ شَيْءٍ اعْتَقَدْته فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ " الْمُرَادِ " وَهُوَ اللَّهُ وَ " الطَّرِيقُ إلَيْهِ " وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ . فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَتَكُونَ عِبَادَتُك إيَّاهُ بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ عِلْمًا وَلَا بُدَّ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ عَمَلًا . وَلِهَذَا كَانَ " الْإِيمَانُ " قَوْلًا وَعَمَلًا مَعَ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فَعِلْمُ الْحَقِّ مَا وَافَقَ عِلْمَ اللَّهِ وَالْإِرَادَةُ الصَّالِحَةُ مَا وَافَقَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . فَالْأُمُورُ الْخَبَرِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ عِلْمَ اللَّهِ وَخَبَرَهُ ; وَالْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ حُبّ اللَّهِ وَأَمْرَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ وَذَاكَ عِلْمُهُ . وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ حُكْمَهُ مُجَرَّدَ الْقَدَرِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَجَعَلَ مُشَاهَدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ حَسَنَةً أَوْ يَسْتَقْبِحَ سَيِّئَةً فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَلَا يَنْفَعُ الْمُرِيدُ الْقَاصِدُ أَنْ يَعْبُدَ أَيَّ مَعْبُودٍ كَانَ وَلَا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِأَيِّ عِبَادَةٍ كانت بَلْ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَالنَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَعْبُدُونَهُ بِمَا شَرَعَ . لَا يَعْبُدُونَهُ بِالْبِدَعِ إلَّا مَا يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ خَطَأٌ . فَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْإِرَادَةِ قَدْ يَغْلَطُونَ تَارَةً فِي الْمُرَادِ ; وَتَارَةً فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِ وَتَارَةً يألهون غَيْرَ اللَّهِ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَسُؤَالِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فَهَذَا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ . وَ " الْعِبَادَةُ " تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَكَمَالَ التَّعْظِيمِ وَكَمَالَ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ . وَ " الْفَنَاءُ " فِي هَذَا التَّوْحِيدِ فَنَاءُ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ وَالْحُبِّ فِيهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْحُبِّ فِيهِ . وَأَمَّا الغالطون فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ يُرِيدُونَ اللَّهَ ; لَكِنْ لَا يَتَّبِعُونَ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ فِي إرَادَتِهِ . لَكِنْ " تَارَةً " يَعْبُدُهُ أَحَدُهُمْ بِمَا يَظُنُّهُ يُرْضِيهِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ . وَ " تَارَةً " يَنْظُرُونَ الْقَدَرَ لِكَوْنِهِ مُرَادِهِ فَيَفْنَوْنَ فِي الْقَدَرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ غَرَضٌ وَأَمَّا الْفَنَاءُ الْمُطْلَقُ فِيهِ فَمُمْتَنِعٌ . وَهَؤُلَاءِ يَفْنَى أَحَدُهُمْ مُتَّبِعًا لِذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ الْمُخَالِفِ لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ أَوْ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ . وَهَذَا يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ خَوَّاصِهِمْ . وَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَنَحْوُهُ مِنْ أَعْظَمِ مَشَايِخِ زَمَانِهِمْ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الذَّوْقِ وَالْقَدَرِ , وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَشَايِخِ أَمْرًا بِتَرْكِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ . فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ إرَادَةٌ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ; فَهُوَ يَأْمُرُ السَّالِكَ
أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ مِنْ جِهَةِ هَوَاهُ أَصْلًا ; بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إمَّا إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَنْ تُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ ; وَإِلَّا جَرَى مَعَ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ إمَّا مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ , وَإِمَّا مَعَ خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ صَحِيحَةٌ " إنَّمَا يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ تَرْكِ إرَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ أَوْ مِنْ تَقْدِيمِ إرَادَةٍ قَدَرِيَّةٍ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ فَقَدْ يَتْرُكُهَا وَقَدْ يُرِيدُ ضِدَّهَا فَيَكُونُ تَرَكَ مَأْمُورًا أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ . فَإِنَّ " طَرِيقَةَ الْإِرَادَةِ " يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعِلْمِ ; وَمَا يَقْتَرِنُ بِالْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ كَمَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعَمَلِ وَضَعْفِ الْعِلْمِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْعَمَلِ ; لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا مِنْ هَذَا وَهَذَا . قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَإِذَا تَفَقَّهَ السَّالِكُ وَتَعَلَّمَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَكَانَ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ بِحَسَبِ ذَاكَ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ . وَإِذَا أَدَّى الطَّالِبُ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَكَانَ عِلْمُهُ مُطَابِقًا لِعَمَلِهِ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ