مسألة تالية
متن:
وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَلِمَا أَمَرَ بِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أَيْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ هُوَ إرَادَتُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَكُلُّ مُحِبٍّ فَهُوَ مُرِيدٌ . وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } ثُمَّ قَالَ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ; يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَإِرَادَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْ إرَادَةِ غَيْرِهِ وَإِرَادَةِ مَا نَهَى عَنْهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } " فَهُمَا " إرَادَتَانِ " : إرَادَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَإِرَادَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهَا بَلْ إمَّا نَهَى عَنْهَا وَإِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَلَا يَنْهَى عَنْهَا وَالنَّاسُ فِي الْإِرَادَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " . قَوْمٌ يُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ فَهَؤُلَاءِ عَبِيدُ أَنْفُسِهِمْ وَالشَّيْطَانِ . وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فَرَغُوا مِنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُرَادٌ إلَّا مَا يُقَدِّرُهُ الرَّبُّ وَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهَذَا فَقَدْ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ ; وَأَنَّهُ شَهِدَ القيومية الْعَامَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْفَنَاءَ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ ; وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا : الْجَمْعَ وَالْفَنَاءَ وَالِاصْطِلَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ زَلَقُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفِي " هَذَا الْمَقَامِ " كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ الصُّوفِيَّةِ ; فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ شُهُودُ الْقَدَرِ ; وَسَمَّوْا هَذَا " مَقَامَ الْجَمْعِ " فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ بِإِرَادَةِ هَذَا وَكَرَاهَةِ هَذَا وَرُؤْيَةِ فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ هَذَا التَّوْحِيدَ يَرَى لِلْخَلْقِ فِعْلًا يَتَفَرَّقُ بِهِ قَلْبُهُ فِي شُهُودِ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ ; وَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ فِيمَا يُرِيدُهُ فَإِذَا أَرَادَ الْحَقَّ خَرَجَ بِإِرَادَتِهِ عَنْ إرَادَةِ الْهَوَى وَالطَّبْعِ ثُمَّ شَهِدَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَخَرَجَ بِشُهُودِ هَذَا الْجَمْعِ عَنْ ذَاكَ الْفَرْقِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا ذَكَرَ لَهُمْ الجنيد بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْقَ الثَّانِي وَهُوَ بَعْدَ هَذَا الْجَمْعِ وَهُوَ الْفَرْقُ الشَّرْعِيُّ . أَلَّا تَرَى أَنَّك تُرِيدُ مَا أُمِرْت بِهِ وَلَا تُرِيدُ مَا نُهِيت عَنْهُ وَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ بِطَاعَةِ رُسُلِهِ فَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَتَشْهَدُ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ فَنَازَعُوهُ فِي هَذَا " الْفَرْقِ " مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهِ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ . ثُمَّ إنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الشُّيُوخِ إنَّمَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " وَالْفِنَاءُ فِيهِ . كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَطْعًا كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَكِنْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْعَامَّةِ . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَتَنَاقَضُ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْوُقُوفُ مَعَ الْأَمْرِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ) وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِأَهْلِ الْمَارَسْتَانِ . وَ ( مِنْهُمْ مِنْ يُسَمِّي ذَلِكَ مَقَامَ التَّلْبِيسِ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : التَّحْقِيقُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا ) فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ اسْتِوَاءَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى سُلُوكِ الْعَارِفِينَ وَغَايَةُ مَنَازِلِ الْأَوْلِيَاءِ الصِّدِّيقِينَ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوُقُوفَ مَعَ إرَادَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَكُونُ فِي السُّلُوكِ وَالْبِدَايَةِ وَأَمَّا فِي النِّهَايَةِ فَلَا تَبْقَى إلَّا إرَادَةُ الْقَدَرِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلٌ بِسُقُوطِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَالطَّاعَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إنَّمَا تَكُونُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا فِي الْجَرْيِ مَعَ الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا أَوْ فَسُوقًا أَوْ عِصْيَانًا وَمِنْ هُنَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَخُفَرَائِهِمْ حَيْثُ شَهِدُوا الْقَدَرَ مَعَهُمْ ; وَلَمْ يَشْهَدُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ . وَيَقُولُونَ إنَّ الْخَضِرَ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ لَمَّا شَهِدَ الْقَدَرَ . وَأَصْحَابُ شُهُودِ الْقَدَرِ قَدْ يُؤْتَى أَحَدُهُمْ مُلْكًا مِنْ جِهَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَمَالًا فِي الْوِلَايَةِ ; وَتَكُونُ تِلْكَ " الْخَوَارِقُ " إنَّمَا حَصَلَتْ بِأَسْبَابِ شَيْطَانِيَّةٍ وَأَهْوَاءٍ نَفْسَانِيَّةٍ ; وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوِلَايَةِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي إقَامَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ مَعَ حُصُولِهِمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ اُسْتُعْمِلَتْ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ كانت مَذْمُومَةً وَإِنْ تَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُبَاحٍ لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ كَانَتْ لِلْأَبْرَارِ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَمَّا إنْ حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَاسْتُعِينَ بِهَا عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ : فَهَذِهِ خَوَارِقُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْظَرَ فِي " الْخَوَارِقِ " فِي أَسْبَابِهَا وَغَايَاتِهَا : مِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ وَإِلَى مَاذَا أَوْصَلَتْ - كَمَا يُنْظَرُ فِي الْأَمْوَالِ فِي مُسْتَخْرَجِهَا وَمَصْرُوفِهَا - وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا - أَعْنِي الْخَوَارِقَ - فِي إرَادَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَأَمَّا إنْ عَرَفَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَذْمُومًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ إنْ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ وَهُوَ يُمْدَحُ بِكَوْنِ إرَادَتِهِ لَيْسَتْ بِهَوَاهُ ; لَكِنْ يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَا يَكْفِيهِ أَنْ تَكُونَ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خُلُوُّهُ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرَادَ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; لَكِنْ إذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ مَا تَهْوَاهُ بَقِيَ مُرِيدًا لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَكُونُ ضَالًّا . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ حَالَ الضَّالِّينَ مِنْ النَّصَارَى . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } " . فَالْيَهُودُ لَهُمْ إرَادَاتٌ فَاسِدَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ : بِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ فَلَهُمْ عِلْمٌ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ وَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُحَرَّمَةِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي الْإِرَادَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهِيَ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَالنَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَزُهْدٌ لَكِنَّهُمْ ضُلَّالٌ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلَا يَعْرِفُونَ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ تَجْرِيدُ نَفْسِهِ عَنْ الْإِرَادَاتِ فَلَا يَبْقَى مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا لَا يُرِيدُ كَثِيرًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ عَنْ مَقْصُودِهِمْ فَإِنَّ مَقْصُودَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا كَانُوا مَلْعُونِينَ : أَيْ بَعِيدِينَ عَنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُنَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَ " الْعَالِمُ الْفَاجِرُ " يُشْبِهُ الْيَهُودَ . وَ " الْعَابِدُ الْجَاهِلُ " يُشْبِهُ النَّصَارَى . وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّانِي . وَهَذَا الْمَوْضِعُ تَفَرَّقَ فِيهِ بَنُو آدَمَ وَتَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ . فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وَأَفْضَلُ الْأَحْوَالِ فِيهِ حَالُ الْخَلِيلَيْنِ : إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَمُحَمَّدٌ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا وَهُوَ الْمَعْرُوجُ بِهِ إلَى مَا فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ - إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمَا .