مسألة تالية
متن:
. فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الشَّيْخِ كُلِّهِ يَدُورُ عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأَمْرَ مَهْمَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا يَكُونُ فِيهِ مُسْلِمًا لِفِعْلِ الرَّبِّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارٌ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بَلْ إنْ عَرَفَ الْأَمْرَ كَانَ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ كَانَ مَعَ الْقَدَرِ فَهُوَ مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ إنْ عَرَفَ وَإِلَّا فَمَعَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ لَا بِاسْتِحْبَابِ وَلَا كَرَاهَةٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ هُوَ وَالشَّيْخُ حَمَّادٌ الدباس وَإِنَّ السَّالِكَ يَصِلُ إلَى أُمُورٍ لَا يَكُونُ فِيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ بَلْ يَقِفُ الْعَبْدُ مَعَ الْقَدَرِ وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ السَّالِكُ فِيهِ عِنْدَهُمْ مَعَ " الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ " الْمَحْضَةِ إذْ لَيْسَ هُنَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ . وَهَذَا مِمَّا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ . وَيَقُولُونَ : " الْفِعْلُ " إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِ وُجُودُهُ رَاجِحًا عَلَى عَدَمِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ رَاجِحًا عَلَى وُجُودِهِ . وَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ . وَإِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُبَاحُ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ . ثُمَّ " الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ " الَّذِي يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ لِلْعَبْدِ لِاسْتِعَانَتِهِ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَلِحُسْنِ نِيَّتِهِ فَهَذَا يَصِيرُ أَيْضًا مَحْبُوبًا رَاجِحَ الْوُجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَوِّتًا لِلْعَبْدِ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ كَالْمُبَاحِ الَّذِي يَشْغَلُهُ عَنْ مُسْتَحَبٍّ فَهَذَا عَدَمُهُ خَيْرٌ لَهُ . وَالسَّالِكُ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ فِي حَقِّهِ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَفِعْلُ الطَّاعَةِ مَكَانَهُ خَيْرًا لَهُ وَإِنَّمَا قَدْرُ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُ بِمُبَاحِ مِثْلِهِ . فَيُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَهَذَا يَصْلُحُ لِلْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ كَأَدَاءِ . الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ مَعَ ذَلِكَ بِمُبَاحَاتِ . فَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانُوا عِنْدَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ آخَرَ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ تَتْرُكَ النَّفْسُ فِعْلًا إنْ لَمْ تَشْتَغِلْ بِفِعْلِ آخَرَ يُضَادُّ الْأَوَّلَ ; إذْ لَا تَكُونُ مُعَطَّلَةً عَنْ جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ . وَمِنْ هَذَا أَنْكَرَ الْكَعْبِيُّ الْمُبَاحَ " فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ فَهُوَ يُشْتَغَلُ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ إلَّا أَنْ يُشْتَغَلَ بِضِدِّهِ وَهَذَا الْمُبَاحُ ضِدُّهُ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ وَإِلَّا فَهُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَأَيُّ ضِدٍّ تَلَبَّسَ بِهِ كَانَ وَاجِبًا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . وَسُؤَالُ الْكَعْبِيِّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النُّظَّارِ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ جَوَابِهِ : كَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَقَوَّاهُ طَائِفَة بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَأَمَّا مَا لَيْسَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِأَحَدِهِمَا كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . فَيُقَالُ فِي الْمُخَيَّرِ : هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَيُقَالُ فِي الْمُطْلَقِ هُوَ أَمْرٌ بِالْقَدَرِ الْمُشْتَرَكِ . وَجَدْنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ يَمِيلُ إلَى هَذَا . وَقَدْ أَلْزَمُوا " الْكَعْبِيَّ إذَا تَرَكَ الْحَرَامَ بِحَرَامِ آخَرَ وَهُوَ قَدْ يَقُولُ : عَلَيْهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا إلَى مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ بَلْ إمَّا مُبَاحٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ .
وَ تَحْقِيقُ الْأَمْرِ " أَنَّ قَوْلَنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ . وَأَضْدَادُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ أَوْ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِهِ . فَإِنَّ وُجُودَ الْمَأْمُورِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَعَدَمَ النَّهْيِ عَنْهُ ; بَلْ وَعَدَمُ كُلِّ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا كَانَ لَا يَعْدَمُ إلَّا بِضِدِّ يَخْلُقُهُ كَالْأَكْوَانِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ أَضْدَادِهِ فَهَذَا حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ; لَكِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمُ جَاءَتْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْأَمْرَ . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ قَصْدًا وَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْوُجُودِ . ( فَالْأَوَّلُ ) هُوَ الَّذِي يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِخِلَافِ ( الثَّانِي ) فَإِنَّ مَنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ أَوْ الْجُمْعَةِ وَكَانَ مَكَانَهُ بَعِيدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبُ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ فَقَطْعُ تِلْكَ الْمَسَافَاتِ مِنْ لَوَازِمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا تُرِكَ هَذَانِ الْجُمْعَةُ وَالْحَجُّ لَمْ تَكُنْ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ مِنْ عُقُوبَةِ الْقَرِيبِ بَلْ ذَلِكَ بِالْعَكْسِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعِيدِ أَعْظَمُ فَلَوْ كَانَتْ اللَّوَازِمُ مَقْصُودَةً لِلْأَمْرِ لَكَانَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا فَكَأَنْ يَكُونُ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . وَهَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ أَضْدَادِهِ لَكِنْ تَرْكُ الْأَضْدَادِ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ لَا عَلَى فِعْلِ الْأَضْدَادِ الَّتِي اشْتَغَلَ بِهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَقْصُودُ النَّاهِي عَدَمَهُ ; لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ وَإِذَا تَرَكَهُ مُتَلَبِّسًا بِضِدِّ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْكِ . وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ حَرَامًا بِحَرَامِ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الثَّانِي وَلَا يُقَالُ فَعَلَ وَاجِبًا وَهُوَ تَرْكُ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ الْأَوَّلِ فَالْمُبَاحُ الَّذِي اشْتَغَلَ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا بِامْتِثَالِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا ; لَكِنْ نُهِيَ عَنْ الْحَرَامِ وَمِنْ ضَرُورَةِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَذَاكَ يَقَعُ لَازِمًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمَحْدُودُ بِقَوْلِنَا " الْوَاجِبُ مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ " أَوْ " يَكُونُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ " . فَقَوْلُنَا : " مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ " أَوْ " يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ " يَتَضَمَّنُ إيجَابَ اللَّوَازِمِ . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ " الْأَوَّلِ " وَ " الثَّانِي " . فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ وَالثَّانِي وَاجِبٌ وُقُوعًا أَيْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ أَمْرًا بِالْوَسَائِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنْ الْعُقُوبَةُ لَيْسَتْ عَلَى تَرْكِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا اشْتَبَهَتْ الْمَيْتَةُ بِالْمُذَكَّى فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ أَحَدُهُمَا بِحَيْثُ إذَا أَكَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَتَيْنِ بَلْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَةً وَاحِدَةً وَالْأُخْرَى وَجَبَ تَرْكُهَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : كِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمُحَرَّمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَإِنْكَارِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا وَمَنْ قَالَ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا لَا يُنَاسِبُ طَرِيقَةَ الْفُقَهَاءِ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى " نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ " . فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ لِأَحَدِهِمَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً لِلْآخَرِ بَلْ نَوْعٌ آخَرُ حَتَّى لَوْ اشْتَبَهَتْ مَمْلُوكَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ بِاللَّيْلِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ حِلَّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا وَتَحْرِيمَ وَطْءِ الْأُخْرَى كَانَ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَتِهِ ثَابِتًا نَسَبُهُ بِخِلَافِ الْأُخْرَى وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهَا اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا فَحُدَّ مَثَلًا ثُمَّ تَزَوَّجَ الْأُخْرَى لَمْ يُحَدَّ حَدَّيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْكُوحَةُ هِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ . وَبِهَذَا تَنْحَلُّ " شُبْهَةُ الْكَعْبِيِّ . فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ تَرْكُهُ مَقْصُودٌ , وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَهُوَ وَسِيلَةٌ ; فَإِذَا
قِيلَ الْمُبَاحُ وَاجِبٌ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْوَسَائِلِ أَيْ قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا حَقٌّ . ثُمَّ إنَّ هَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ ; فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَقْصِدُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمُبَاحِ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ مِثْلُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ إلَى امْرَأَتِهِ وَوَطْئِهَا لِيَدَعَ بِذَلِكَ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَوَطْئِهَا أَوْ يَأْكُلُ طَعَامًا حَلَالًا لِيَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ الطَّعَامِ الْحَرَامِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ ; كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " { وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ; أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخْصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خزيمة فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ يُقَالُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ وَاجِبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا صَارَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا وَإِلَّا كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا لَكِنْ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ إمَّا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا أَصْلًا إلَّا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ إلَى التَّرْكِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ . فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ هُوَ مُبَاحٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ . فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ . وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا مَنْ فَهِمَهَا . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) : أَنَّ الْأَبْرَارَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ قَدْ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ عَنْ مُبَاحٍ آخَرَ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُبَاحَيْنِ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ . أَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُبَاحَاتِ إذَا كَانَتْ طَاعَةً لِحُسْنِ الْقَصْدِ فِيهَا ; وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَحِينَئِذٍ فَمُبَاحَاتُهُمْ طَاعَاتٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ فَيُؤْمَرُونَ بِهِ شَرْعًا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَوْ مَا يَتَرَجَّحُ عَدَمُهُ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَلَّا يَفْعَلُوهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَهَذَا " سُؤَالٌ " . وَ " سُؤَالٌ ثَانٍ " وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا فِي حَقِّ الْأَبْرَارِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُحَبُّ وَلَا يُبْغَضُ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَّا وُجُودُ الْقَدَرِ وَعَدَمُهُ ; بَلْ إنْ فَعَلَوْهُ لَمْ يُحْمَدُوا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لَمْ يُحْمَدُوا فَلَا يَجْعَلُ مِمَّا يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ صَدَرَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ . إذْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا غَيْرُ " الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " : وَهُوَ مَا فُعِلَ بِالْإِنْسَانِ كَمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُحِبَّهُ إنْ كَانَ حَسَنَةً وَيُبْغِضَهُ إنْ كَانَ سَيِّئَةً وَيَخْلُوَ عَنْهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَمَنْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ الْقَدَرُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ - فَقَدْ رَفَعَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ . وَ " سُؤَالٌ ثَالِثٌ " : وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ طَيُّ بِسَاطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ كَوْنِ أَفْعَالِهِ اخْتِيَارِيَّةً وَهَبْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَوَى فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا هَوَى فِيهِ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قِيلَ : هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ أَسْئِلَةٌ صَحِيحَةٌ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ السَّالِكَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ; فَيَبْقَى هَوَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ هَوَى فِيهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ فِيهِ لِلْقَدَرِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِرِضَا الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَحُبِّهِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ . وَهَذَا يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَ اللَّهِ الشَّرْعِيَّ فِيهَا بَلْ قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ أَوْ خَفِيَتْ الْأَدِلَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَكُونُونَ مَعْذُورِينَ لِخَفَاءِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ وَحُكْمُ الشَّرْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ خَطَأً فِي الْعَمَلِ وَهُوَ كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ لَهُ أَجْرٌ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا ذَمَّ فَيَقِفُ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْقَدَرِ وَيَصِيرُ مَحَلًّا لِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ فِعْلًا فَهُوَ لَا يَمْدَحُهُ وَلَا يَذُمُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَسْخَطُهُ ; إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ حُكْمُهُ . فَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ يَصِيرُ مُسْتَسْلِمًا لِمَا يَسْتَعْمِلُهُ الْقَدَرُ فِيهِ : كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ هَذَا مُحَرَّمٌ وَإِنْ عفى عَنْ صَاحِبِهِ وَحَسْبُ صَاحِبِهِ أَنْ يعفي عَنْهُ ; لِاجْتِهَادِهِ وَحُسْنِ قَصْدِهِ أَمَّا كَوْنُهُ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجْعَلُ هَذَا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَوْنُهُ مُجَرَّدًا عَنْ هَوَاهُ لَيْسَ مُسَوَّغًا لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِكُلِّ مَا يُفْعَلُ بِهِ . ثُمَّ يُقَالُ الْأُمُورُ مَعَ هَذَا نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ يُفْعَلَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ وَكَمَا تُضْجَعُ الْمَرْأَةُ قَهْرًا وَتُوطَأَ فَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَفْعَلَ فَهَذَا أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَمَّا إذَا لَمْ يُكْرَهْ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ فَاسْتِسْلَامُهُ لِلْفِعْلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَخِيرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ ؟ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ وَإِنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ خَرْقُ عَادَةٍ أَوْ لَمْ يَجْرِ فَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : هَذَا السُّؤَالُ صَحِيحٌ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ السَّالِكِينَ إذَا وَصَلُوا إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيَحْسُنُ قَصْدُهُمْ وَتَسْلِيمُهُمْ وَخُضُوعُهُمْ لِرَبِّهِمْ وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ إذَا اسْتَعْمَلُوا فِي أُمُورِهِمْ [ مَا ] لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَهُ فِي الشَّرْعِ رَجَوْا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا ; لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِحُكْمِهِ قَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ عَالِمٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَبِمَا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَبْقَى حَالُهُمْ حَالَ الْمُسْتَخِيرِ لِلَّهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ إذَا قَالَ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسَتُخَيِّرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ ; فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ; وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَم ; وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ . وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَأَصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ } " فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ كَانَ مَا شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَتَيَسَّرَ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ . إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ عَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَأْمُرُ بِأَمْرِ مُطْلَقٍ عَامٍّ لَا بِعَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ كُلِّ فَاعِلٍ إذْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا ; وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ يُمْكِنُ إدْرَاجُهُ تَحْتَ بَعْضِ خِطَابِ الشَّارِعِ الْعَامِّ ; إذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ الْمُعَيَّنَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْأَمْرِ الْعَامِّ الْكُلِّيِّ ; لَكِنْ لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا وَلَا عَلَى اسْتِحْضَارِ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ يَعْدِلُونَ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ " الْقِيَاسُ أَيْضًا قَدْ لَا يَحْصُلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ دُخُولُ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَحْتَ خِطَابٍ عَامٍّ أَوْ اعْتِبَارِهَا بِنَظِيرِ لَهَا فَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ وَلَا نَظِيرٌ . هَذَا مَعَ كَثْرَةِ نَظَرِهِمْ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ . فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثُمَّ السَّالِكُ لَيْسَ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; بَلْ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ وَلِكُلِّ سَالِكٍ حَالٌ تَخُصُّهُ قَدْ يُؤْمَرُ فِيهَا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ وَيُؤْمَرُ فِي حَالٍ بِمَا يَنْهَى عَنْهُ فِي أُخْرَى . فَقَالُوا : نَحْنُ نَفْعَلُ الْخَيْرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ فِعْلُ مَا عَلِمْنَا أَنَّا أُمِرْنَا بِهِ وَنَتْرُكُ أَصْلَ الشَّرِّ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ وَنَلْجَأُ إلَى اللَّهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ وَأَرْضَى لَهُ ; فَمَا اسْتَعْمَلْنَا فِيهِ رَجَوْنَا أَنَّ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; ثُمَّ إنْ أَصَبْنَا فَلَنَا أَجْرَانِ وَإِلَّا فَلَنَا أَجْرٌ وَخَطَؤُنَا مَحْطُوطٌ عَنَّا فَهَذَا هَذَا . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْمَشْرُوعَ وَفَعَلَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ; وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَشْرُوعَ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَقْصِدُ أَحَبّ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَفْعَلُهُ بِشَوْبِ مِنْ الْهَوَى فَيَبْقَى هَذَا فَعَلَ الْمَشْرُوعَ بِهَوَى وَهَذَا تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِلَا هَوَى . فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْعِلْمِ وَذَاكَ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ ; إذْ الْعَمَلُ بِهَوَى النَّفْسِ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ وَلَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ وَاجِبًا . فَيُقَالُ : إنْ تَابَ صَاحِبُ الْهَوَى مِنْ هَوَاهُ كَانَ أَرْفَعَ بِعِلْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ عَالِمِ السُّوءِ ; وَلِهَذَا تَشَاجَرَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ عَامَ الْحَكَمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا . فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّمَا مَثَلُك مِثْلُ الْكَلْبِ ; إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ . وَقَالَ الْآخَرُ : أَنْتَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ; فَهَذَا أَحْسَنُ قَصْدًا وَأَقْوَى عِلْمًا . وَلِهَذَا تَجِدُ أَصْحَابَ حُسْنِ الْقَصْدِ إنَّمَا يَعِيبُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَحُبَّ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعِيبُونَ عَلَى أُولَئِكَ نَقْصَ عِلْمِهِمْ بِالشَّرْعِ وَعُدُولَهُمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَنَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ ( أَهْلِ الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ ) : مِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ " الشَّرِيعَةَ " وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ " الْحَقِيقَةَ " . وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِمَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْلُومِ لَهُمْ مَعَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مَعَ خَفَاءِ الْأَمْرِ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ . وَ ( أَيْضًا فَهَؤُلَاءِ ) قَدْ يَشْهَدُونَ مَا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ فَيُرَجِّحُونَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا دَلِيلًا مِنْ النَّصِّ عَلَى حُسْنِهِ وَأُولَئِكَ إنَّمَا يُرَجِّحُونَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَا اُسْتُنْبِطَ مِنْهَا . فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْإِيمَانُ . وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ خَفِيَ عَلَيْهِ مَا مَعَ الْأُخْرَى مِنْ الْحَقِّ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ . فَأَمَّا الْمُدَّعُونَ لِلْحَقِيقَةِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُمْ ضَالُّونَ ; كَاَلَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُمْ فُسَّاقٌ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : " احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ " . وَ " الْحَقِيقَةُ " قَدْ تَكُونُ قَدَرِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ ذَوْقِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً وَلَفْظُ " الشَّرْعِ " يَتَنَاوَلُ الْمُنَزَّلَ وَالْمُؤَوَّلَ وَالْمُبَدَّلَ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) ذِكْرُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَالْكَلَامُ عَلَى حَالِ أَهْل الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ الْهَوَى وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبْعِيُّ وَقَامُوا بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ . وَبَقِيَ " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ طَبْعِيٌّ وَلَا عِنْدَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ الَّذِي جَرَوْا فِيهِ مَعَ الْفِعْلِ وَالْقَدَرِ . وَأَمَّا مَنْ جَرَى مَعَ الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ إمَّا عَالِمًا بِأَنَّهُ عَاصٍ وَهُوَ الْعَالِمُ الْفَاجِرُ أَوْ مُحْتَجًّا بِالْقَدَرِ أَوْ بِذَوْقِهِ وَوَجَدَهُ مُعْرِضًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْعَابِدُ الْجَاهِلُ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ حَالَ كَمَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَنَّهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ; إذْ كَانُوا فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ يَقُومُونَ بِالْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِي جَلِيلِ الْأُمُورِ وَدَقِيقِهَا مَعَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يَخُصُّهُ كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي أَمْرٍ قَلِيلٍ . فَأُولَئِكَ مَعَ عَظِيمِ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَهُمْ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيَّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَهُمْ الْقَصْدُ الْحَسَنُ الَّذِي يَفْعَلُونَ بِهِ الْحَسَنَاتِ . وَالْكَثِيرُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْعَالِمِينَ وَالْعَابِدِينَ يَفُوتُ أَحَدَهُمْ الْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ حَتَّى يَظُنَّ السَّيِّئَةَ حَسَنَةً وَبِالْعَكْسِ أَوْ يَفُوتُهُ الْقَصْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَتَّبِعَ هَوَاهُ فِيمَا وَضَحَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . هَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَالِمِ مَا هُوَ أَمْرُ الشَّارِعِ وَنَهْيُهُ حَقِيقَةً وَعِنْدَ الْعَابِدِ حُسْنُ الْقَصْدِ الْخَالِي عَنْ الْهَوَى حَقِيقَةً