تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنَّ الْمُحِبَّ يَجْذِبُ وَالْمَحْبُوبَ يُجْذَبُ . فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا جَذَبَهُ إلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ صُورَةً جَذَبَتْهُ تِلْكَ الصُّورَةُ إلَى الْمَحْبُوبِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ عِلَّتُهُ فَاعِلِيَّةٌ وَالْمَحْبُوبَ عِلَّتُهُ غائية وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُولِ وَالْمُحِبُّ إنَّمَا يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ بِمَا فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ صُورَتِهِ الَّتِي يَتَمَثَّلُهَا ; فَتِلْكَ الصُّورَةُ تَجْذِبُهُ بِمَعْنَى انْجِذَابِهِ إلَيْهَا لَا أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا قَصْدٌ وَفِعْلٌ ; فَإِنَّ فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ مَا يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْمُحِبِّ إلَيْهِ كَمَا يَنْجَذِبُ الْإِنْسَانُ إلَى الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ وَإِلَى امْرَأَةٍ لِيُبَاشِرَهَا وَإِلَى صَدِيقِهِ لِيُعَاشِرَهُ وَكَمَا تَنْجَذِبُ قُلُوبُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحَبّ وَيُعْبَدَ . بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ لِذَاتِهِ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فَكُلُّ مَحْبُوبٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحَبّ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ مَعَانِي إلَهِيَّتِهِ و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فَإِنَّ مَحَبَّةَ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ شِرْكٌ فَلَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ إنْ لَمْ يُحَبّ لِأَجْلِهِ أَوْ لِمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي النُّفُوسِ حُبّ الْغِذَاءِ وَحُبَّ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الْأَبْدَانِ وَبَقَاءِ الْإِنْسَانِ ; فَإِنَّهُ لَوْلَا حُبّ الْغِذَاءِ لَمَا أَكَلَ النَّاسُ فَفَسَدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَلَوْلَا حُبُّ النِّسَاءِ لَمَا تَزَوَّجُوا فَانْقَطَعَ النَّسْلُ . وَالْمَقْصُودُ بِوُجُودِ ذَلِكَ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمَعْبُودَ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ غَيْرُهُ . وَإِنَّمَا تُحَبُّ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ حُبّ مَا يُحِبُّهُ وَهُوَ يُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَحُبُّهَا لِلَّهِ هُوَ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ وَأَمَّا الْحُبُّ مَعَهُ فَهُوَ حُبُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فَالْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ لِلَّهِ كَانَ حُبُّهُ جَاذِبًا إلَى حُبِّ اللَّهِ وَإِذَا تَحَابَّ الرَّجُلَانِ فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ; كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا لِلْآخَرِ إلَى حُبّ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءِ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَهُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يتباذلونها وَلَا أَرْحَامٍ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا إنَّ لِوُجُوهِهِمْ لَنُورًا وَإِنَّهُمْ لَعَلَى كَرَاسٍ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إذَا حَزِنَ النَّاسُ } فَإِنَّك إذَا أَحْبَبْت الشَّخْصَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ فَكُلَّمَا تَصَوَّرْته فِي قَلْبِك تَصَوَّرْت مَحْبُوبَ الْحَقِّ فَأَحْبَبْته فَازْدَادَ حُبُّك لِلَّهِ . كَمَا إذَا ذَكَرْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَصْحَابَهُمْ الصَّالِحِينَ وَتَصَوَّرْتهمْ فِي قَلْبِك فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْذِبُ قَلْبَك إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ وَبِهِمْ إذَا كُنْت تُحِبُّهُمْ لِلَّهِ فَالْمَحْبُوبُ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْمُحِبُّ لِلَّهِ إذَا أَحَبّ شَخْصًا لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَحْبُوبُهُ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَجْذِبَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلٌّ مِنْ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى اللَّهِ . وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا إذَا أَحَبّ كُلٌّ مِنْ الشَّخْصَيْنِ الْآخَرَ بِصُورَةِ : كَالْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَطْلُبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُ الْمُحِبَّ بِانْجِذَابِ الْمَحْبُوبِ فَإِذَا كَانَا مُتَحَابَّيْنِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا مَجْذُوبًا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَيَجِبُ الِاتِّصَالُ وَلَوْ كَانَ الْحُبُّ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَكَانَ الْمُحِبُّ يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَجْذِبُهُ لَكِنَّ الْمَحْبُوبَ لَا يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَالْمُحِبُّ يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَيَنْجَذِبُ وَهَذَا " سَبَبُ التَّأْثِيرِ فِي الْمَحْبُوبِ " إمَّا تَمَثُّلٌ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ فَيَنْجَذِبُ وَإِمَّا أَنْ يَنْجَذِبَ بِلَا مَحَبَّةٍ : كَمَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَيَلْبَسُ الثَّوْبَ وَيَسْكُنُ الدَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا . وَأَمَّا " الْحَيَوَانُ " فَيُحِبُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَقَدْ جُبِلَتْ النُّفُوسُ عَلَى حُبّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ لَا نَفْسُ الْمُحْسِنِ وَلَوْ قُطِعَ ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّ ذَلِكَ الْحُبُّ وَرُبَّمَا أَعْقَبَ بُغْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يُعْطِيه فَمَا أَحَبّ إلَّا الْعَطَاءَ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعْطِيه لِلَّهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ وَزُورٌ مِنْ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يَنْصُرُهُ إنَّمَا أَحَبّ النَّصْرَ لَا النَّاصِرَ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ اتِّبَاعِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنَّهُ لَمْ يُحِبّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَهُوَ إنَّمَا أَحَبَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ وَإِنَّمَا أَحَبّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ هَذَا حُبًّا لِلَّهِ وَلَا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ . وَعَلَى هَذَا تَجْرِي عَامَّةُ مَحَبَّةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَهَذَا لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى النِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ فَكَانُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَخِلَّاءِ الَّذِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَمَّا مَنْ يَرْجُو النَّفْعَ وَالنَّصْرَ مِنْ شَخْصٍ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ فَهَذَا مِنْ دَسَائِسِ النُّفُوسِ وَنِفَاقِ الْأَقْوَالِ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ الْحُبُّ لِلَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَوْنِ حُبِّهِمْ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُمْ . وَنَبِيُّنَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَيَدَعُ آخَرِينَ هُمْ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي يُعْطِي ; يَكِلُهُمْ إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ ; لِيَكُونَ مَا يُعْطِيهِمْ سَبَبًا لِجَلْبِ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يُحِبُّوا الْإِسْلَامَ فَيُحِبُّوا اللَّهَ فَكَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ دَعْوَةَ الْقُلُوبِ إلَى حُبّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَرْفِهَا عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ ; وَلِهَذَا كَانَ يُعْطِي أَقْوَامًا خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ فَمَنَعَهُمْ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ عَمَّا يَكْرَهُهُ مِنْهُمْ فَكَانَ يُعْطِي لِلَّهِ وَيَمْنَعُ لِلَّهِ . وَقَدْ قَالَ : { مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَلَكِنْ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } . وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمُتَمَثِّلَةُ فِي النَّفْسِ يَتَحَرَّكُ لَهَا الْمُحِبُّ وَيُرِيدُ لَهَا وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَبْتَهِجُ وَيَنْشَرِحُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ فَتَبْقَى هِيَ كَالْآمِرِ النَّاهِي لَهُ ; وَلِهَذَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُهُ بِأَمْرِ وَنَهْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُخْبِرُهُ بِأُمُورِ . وَالْمُشْرِكُونَ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي صُوَرِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ . تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ . وَالْقَائِلُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّلُوكِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : إنَّهُ يُخَاطِبُ فِي بَاطِنِهِ عَلَى لِسَانِ الشَّاهِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَذَاكَ بِإِزَائِهِ لِيُشَاهِدَهُ فِي الضَّوْءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَاهِدُهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ فِي غَيْرِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ وَيَجِدُونَ الْمَزِيدَ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَمَثَّلُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ فَيَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ خِطَابًا مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ فَيَقُولُونَ خُوطِبْنَا مِنْ جِهَتِهِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمُخَاطَبِ فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لَهُ ؟ فَالْفُرْقَانُ هُنَا . فَإِنَّمَا ذَلِكَ الْمُخَاطَبُ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ . وَقَدْ يُخَاطَبُونَ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ رَشْوَةً مِنْهُ لَهُمْ وَلَا يُخَاطَبُونَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِئَلَّا يُنَفَّرُونَ مِنْهُ بَلْ الشَّيْطَانُ يُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ بِمَا يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَالرَّاهِبُ إذَا رَاضَ نَفْسَهُ فَمَرَّةً يَرَى فِي نَفْسِهِ صُورَةَ التَّثْلِيثِ وَرُبَّمَا خُوطِبَ مِنْهَا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ يَتَمَثَّلُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا انصقلت نَفْسُهُ بِالرِّيَاضَةِ ظَهَرَتْ لَهُ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَرَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَكَذَلِكَ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ يَكُونُ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَيُخَاطَبُ بِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْآمِرُ لَهُ بِذَلِكَ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشِّرْكِ إذْ لَوْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ لَمَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ فِيهِ شِرْكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ عِنْدَهُ بِدْعَةٌ وَلَا يَقَعُ هَذَا لِمُخْلِصِ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ .