تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَإِذَا كَانَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ تَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَتَكُونُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ عُلِمَ أَنَّهُ ذَنْبٌ تَبَيَّنَ كَثْرَةُ مَا يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إذَا ذُكِرَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَشْعِرُ قَبَائِحَ قَدْ فَعَلَهَا فَعَلِمَ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ : كَالْفَاحِشَةِ وَالظُّلْمِ الظَّاهِرِ . فَأَمَّا مَا قَدْ يُتَّخَذُ دِينًا فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ذَنْبٌ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ . كَدِينِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُبَدَّلِ فَإِنَّهُ مِمَّا تَجِبُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَأَهْلُهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى . وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ كُلُّهَا . وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ - : الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا . وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى وَلَوْ تَابَ لَتَابَ عَلَيْهِ كَمَا يَتُوبُ عَلَى الْكَافِرِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ تَوْبَةُ مُبْتَدِعٍ مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا مُنْكَرًا . وَمَنْ قَالَ : مَا أَذِنَ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ فِي تَوْبَةٍ . فَمَعْنَاهُ مَا دَامَ مُبْتَدِعًا يَرَاهَا حَسَنَةً لَا يَتُوبُ مِنْهَا فَأَمَّا إذَا أَرَاهُ اللَّهُ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَإِنَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا كَمَا يَرَى الْكَافِرُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ ; وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ تَبَيَّنَ لَهُ ضَلَالُهَا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا . وَهَؤُلَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ . وَ " الْخَوَارِجُ " لَمَّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ رَجَعَ مِنْهُمْ نِصْفُهُمْ أَوْ نَحْوُهُ وَتَابُوا وَتَابَ مِنْهُمْ آخَرُونَ عَلَى يَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ الْعِلْمَ فَتَابَ وَهَذَا كَثِيرٌ فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فَاعِلُوهُ قُبْحَهُ قِسْمٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ عَامٌّ وَكَذَلِكَ مَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَاجِبَاتٍ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا كَثِيرَةً جِدًّا ثُمَّ إذَا عَلِمَ مَا كَانَ قَدْ تَرَكَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا كَانَ سَيِّئَةً وَالتَّائِبُ يَتُوبُ مِمَّا تَرَكَهُ وَضَيَّعَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا وَتَرَكَ هَذَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ فَبِالرِّسَالَةِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا وَفِعْلِ هَذَا . وَإِلَّا فَكَوْنُهُ كَانَ فَاعِلًا لِلسَّيِّئَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَتَارِكًا لِلْحَسَنَاتِ الَّتِي يُذَمُّ تَارِكُهَا كَانَ تَائِبًا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَذَكَرْنَا " الْقَوْلَيْنِ " قَوْلَ مَنْ نَفَى الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَقَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عَلَيْهَا فَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهَا . قِيلَ بَلْ فِيهِ مَعْنَيَانِ : ( أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ لَكِنْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحُجَّةُ قَالَ تَعَالَى : { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } فَلَوْلَا إنْقَاذُهُ لَسَقَطُوا وَمَنْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى شَفِيرٍ فَهَلَكَ فَهَلَاكُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَانَ وَبَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ الْهَلَاكِ . فَأَصْحَابُهَا كَانُوا قَرِيبِينَ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ . ( الثَّانِي أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ مَنْقُوصُونَ مَعِيبُونَ . فَدَرَجَتُهُمْ مُنْخَفِضَةٌ بِذَلِكَ وَلَا بُدَّ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّلِيمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَيْضًا وَثَوَابِهِ . فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ بِحِرْمَانِ خَيْرٍ وَهِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ . الْعُقُوبَةِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا لِكُلِّ مَنْ تَرَكَ مُسْتَحَبًّا فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ خَيْرُهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَبَيْنَ مَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَهُ . وَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ فِيمَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا : فَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ أَنَّهُمْ يُرْسَلُ إلَيْهِمْ رَسُولٌ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ " هَلْ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . قِيلَ : لَا يَتَحَقَّقُ ; فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ كَانَ كَالْمُبَاحِ وَقِيلَ : يَتَحَقَّقُ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذَمَّ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ . وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِقَابَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ بِالْآلَامِ . فَهَذَا قَدْ يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَوْعٌ بِنَقْصِ الدَّرَجَةِ وَحِرْمَانِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ . فَهَذَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُسِيءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } فَيُكَفِّرُهَا تَارَةً بِالْمَصَائِبِ فَتَبْقَى دَرَجَةُ صَاحِبِهَا كَمَا كَانَتْ وَقَدْ تَصِيرُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى وَيُكَفِّرُهَا بِالطَّاعَاتِ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَعْلَى دَرَجَةً . فَيُحْرَمُ صَاحِبُ السَّيِّئَاتِ مَا يَسْقُطُ بِإِزَائِهَا مِنْ طَاعَتِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَلَّا يَخْسَرَ وَمَنْ فَرَّطَ فِي مُسْتَحَبَّاتٍ فَإِنَّهُ يَتُوبُ أَيْضًا ; لِيَحْصُلَ لَهُ مُوجِبُهَا . فَالتَّوْبَةُ تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ . وَتَوْبَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَسَنَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهُمَا أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهَا . وَ ( الثَّانِي أَنْ يَتُوبَ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ حَسَنَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَ ( الثَّالِثُ يَتُوبُ مِنْ إعْجَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ فَعَلَهَا وَأَنَّهَا حَصَلَتْ بِقُوَّتِهِ وَيَنْسَى فَضْلَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهَا وَهَذِهِ تَوْبَةٌ مِنْ فِعْلٍ مَذْمُومٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ . وَلِهَذَا قِيلَ : تَخْلِيصُ الْأَعْمَالِ مِمَّا يُفْسِدُهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الِاجْتِهَادِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ احْتِيَاجَ النَّاسِ إلَى التَّوْبَةِ دَائِمًا . وَلِهَذَا قِيلَ : هِيَ مَقَامٌ يَسْتَصْحِبُهُ الْعَبْدُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ ; فَجَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتُوبُوا وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا التَّوْبَةَ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ التَّوْبَةُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِأَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَمِنْ أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلُهُ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } " . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك . قَالَتْ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ; أَرَاك تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِك : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك . فَقَالَ : أَخْبَرَنِي رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي . فَإِذَا رَأَيْتهَا أَكْثَرْت مِنْ قَوْلِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك فَقَدْ رَأَيْتهَا : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَتْحُ مَكَّةَ { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } } . وَأَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي غَيْرِهَا أَوْ لَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ . بَلْ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . كَمَا يُؤْمَرُ الْإِنْسَانُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَكَمَا يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِهِ ; لَكِنْ هُوَ أَمْرٌ أَنْ يُخْتَمَ عَمَلُهُ بِهَذَا فَغَيْرُهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنْهُ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا } . قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } . قَامُوا اللَّيْلَ ثُمَّ جَلَسُوا وَقْتَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ . وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ " وَفِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كَمَا خَتَمَ بِذَلِكَ " سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ " بِقَوْلِهِ : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ لِلتَّقْوَى . بَلْ قَالَ : { أَهْلُ التَّقْوَى } فَهُوَ وَحْدَهُ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى فَيُعْبَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُتَّقَى كَمَا قَالَ : { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وَهُوَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } " فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ مِمَّا كَانُوا تَارِكِيهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِهِمْ بِهِ رَسُولٌ بَعْدُ كَمَا تَقَدَّمَ وَالرَّسُولُ يَسْتَغْفِرُ مِنْ تَرْكِ مَا كَانَ تَارِكَهُ كَمَا قَالَ فِيهِ : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَالْمُؤْمِنُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ ضَيَّعَ حَقَّ قَرَابَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ وَتَابَ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مَذْمُومٌ .