مسألة تالية
متن:
وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " أَيْ فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ مِثْلَ مُسْلِمٍ وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَفِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَافَقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَسْتَحِلُّوا مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَحَلَّتْهُ الْخَوَارِجُ وَفِي الْأَسْمَاءِ أَحْدَثُوا الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا وَسَائِرُ أَقْوَالِهِمْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ . وَحَدَثَتْ " الْمُرْجِئَةُ " وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَلَا إبْرَاهِيمُ النخعي وَأَمْثَالُهُ فَصَارُوا نَقِيضَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا : إنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ أَخَفَّ الْبِدَعِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي الِاسْمِ وَاللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ ; إذْ كَانَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُضَافُ إلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا هُمْ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ . وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَفْرُوضَةَ وَاجِبَةٌ وَتَارِكُهَا مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ فَكَانَ فِي الْأَعْمَالِ هَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَامَّتُهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } وَإِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَقَدْ ذُكِرَ مُقَيَّدًا بِالْعَطْفِ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ : الْأَعْمَالُ دَخَلَتْ فِيهِ وَعُطِفَتْ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَقَدْ يُقَالُ : لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ وَلَكِنْ مَعَ الْعَطْفِ كَمَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ - إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَهُمَا صِنْفَانِ كَمَا فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } وَكَمَا فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ كَقَوْلِهِ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } فَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ . وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْإِيمَانِ هُوَ كَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْمَعْرُوفِ وَفِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُنْكَرِ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا بَسْطًا كَبِيرًا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَشَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ فَقَدْ صَلَحَ الْقَلْبُ فَيَجِبُ أَنْ يَصْلُحَ سَائِرُ الْجَسَدِ ; فَلِذَلِكَ هُوَ ثَمَرَةُ مَا فِي الْقَلْبِ ; فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَعْمَالُ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ . وَصِحَّتُهُ لِمَا كَانَتْ لَازِمَةً لِصَلَاحِ الْقَلْبِ دَخَلَتْ فِي الِاسْمِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَفِي " الْجُمْلَةِ " الَّذِينَ رُمُوا بِالْإِرْجَاءِ مِنْ الْأَكَابِرِ مِثْلِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ وَإِبْرَاهِيمَ التيمي وَنَحْوِهِمَا : كَانَ إرْجَاؤُهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَكَانُوا أَيْضًا لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَكَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِينَا وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّا مُصَدِّقُونَ وَيَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ شَكًّا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَثْنُونَ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مَا قَالَ ; لَكِنَّ أَحْمَد أَنْكَرَ هَذَا وَضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَارَ النَّاسُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ كَانَ مُبْتَدِعًا . وَقَوْلٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَحْظُورٌ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَوْسَطُهَا وَأَعْدَلُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ وَتَرْكُهُ بِاعْتِبَارِ ; فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالِي لَيْسَ مَقْصُودُهُ الشَّكَّ فِيمَا فِي قَلْبِهِ فَهَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ حَسَنٌ وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا كَمَا أُمِرَ فَقُبِلَ مِنْهُ وَالذُّنُوبُ كَثِيرَةٌ وَالنِّفَاقُ مَخُوفٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ . قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَالْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ بَوَّبَ أَبْوَابًا فِي " الْإِيمَانِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ : إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل - قَالَ مُحَمَّدٌ : لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ يَقِينًا - أَوْ إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ أَوْ إيمَانِي كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ كَإِيمَانِ هَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ آمَنْت بِمَا آمَنَ بِهِ جِبْرِيلُ وَأَبُو بَكْرٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُجَوِّزُونَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ بِكَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْهُ وَيَذُمُّونَ الْمُرْجِئَةَ وَالْمُرْجِئَةُ عِنْدَهُمْ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ الْفَرَائِضَ وَلَا اجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ ; بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ عُلِّلَ تَحْرِيمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِذَا عُلِّقَ الْإِيمَانُ بِالشَّرْطِ كَسَائِرِ الْمُعَلَّقَاتِ بِالشَّرْطِ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ . قَالُوا : وَشَرْطُ الْمَشِيئَةِ الَّذِي يَتَرَجَّاهُ الْقَائِلُ لَا يَتَحَقَّقُ حُصُولُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِذَا عَلَّقَ الْعَزْمَ بِالْفِعْلِ عَلَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ الْمَشِيئَةُ وَصَحَّ الْعَقْدُ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ ; وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَقِيبَ الْكَلَامِ يَرْفَعُ الْكَلَامَ فَلَا يُبْقَى الْإِقْرَارُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَقْدِ مُؤْمِنًا وَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ هَذَا الْقَائِلُ الْقَارِنُ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ بَقَاءَ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يُزِيلُهُ . " قُلْت " : فَتَعْلِيلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِيمَنْ يُعَلِّقُ إنْشَاءَ الْإِيمَانِ عَلَى الْمَشِيئَةِ كَاَلَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ : آمِنْ . فَيَقُولُ : أَنَا أُومِنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ آمَنْت إنْ شَاءَ أَوْ أَسْلَمْت إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَشْهَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَمْ يَقْصِدُوا فِي الْإِنْشَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي إخْبَارِهِ عَمَّا قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاسْتَثْنَوْا إمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْخَاتِمَةَ كَأَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ : أَنْتَ مُؤْمِنٌ . قِيلَ لَهُ : أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ : أَنَا كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ . أَوْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ جَوَابِ بَعْضِهِمْ إذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ فَيَجْزِمُ بِهَذَا وَلَا يُعَلِّقُهُ أَوْ يَقُولُ : إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِيمَانَ الَّذِي يَعْصِمُ دَمِي وَمَالِي فَأَنَا مُؤْمِنٌ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ قَوْلَهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَوْلَهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَأَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا شُرِعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ ; بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ وَأَسْلَمَ آمَنَ وَأَسْلَمَ جَزْمًا بِلَا تَعْلِيقٍ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَدْ يَكُونُ لَفْظِيًّا فَإِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ وَأَمَرَ بِهِ أُولَئِكَ وَمَنْ جَزَمَ جَزَمَ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْحَالِ وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَافِي تَعْلِيقَ الْكَمَالِ وَالْعَاقِبَةِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ فَصَارَ الْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامَ عِنْدَ أُولَئِكَ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ : فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ رَجَّحْنَا التَّفْصِيلَ ; وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ يُرَادُ بِهِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ مَنْعُ إيقَاعٍ تَارَةً فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْتِ طَالِقٌ بِهَذَا اللَّفْظِ . فَقَوْلُهُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْ شَاءَ اللَّهُ الطَّلَاقَ حِينَ أَتَى بِالتَّطْلِيقِ فَيَقَعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ لِئَلَّا يَقَعَ أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ تُوجَدُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْمَشِيئَةُ تُنْجِزُهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا إذَا طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَكِيلٍ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَطْلِيقٌ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ قَطُّ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِتَطْلِيقِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ تَعْلِيقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْآنَ . وَأَمَّا إنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ الْآنَ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ تَوْكِيدًا وَتَحْقِيقًا فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَمَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَنْشَأَ الْإِيمَانَ فَعَلَّقَهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَإِذَا عَلَّقَهُ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَا أُومِنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا لَمْ يَصِرْ مُؤْمِنًا مِثْلَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : هَلْ تَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَصِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهَذَا لَمْ يُسْلِمْ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْكُفْرِ . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ أَنِّي قَدْ آمَنْت وَإِيمَانِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ صَارَ مُؤْمِنًا لَكِنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْإِنْشَاءِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَمَّا الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ فَلَا يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا لَمْ يَسْتَثْنُوا فِي الْإِنْشَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ كَيْفَ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ آمَنُوا فَوَقَعَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ قَطْعًا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ . وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا اُسْتُثْنِيَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ قَطُّ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ كَمَا يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَهُ : أَنْتَ مُؤْمِنٌ هُوَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِهِ : هَلْ أَنْتَ بَرٌّ تَقِيٌّ ؟ فَإِذَا قَالَ : أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَدْ زَكَّى نَفْسَهُ . فَيَقُولُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ التَّامَّ يَتَعَقَّبُهُ قَبُولُ اللَّهِ لَهُ وَجَزَاؤُهُ عَلَيْهِ وَكِتَابَةُ الْمُلْكِ لَهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى ذَلِكَ لَا إلَى مَا عَلِمَهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَصَلَ وَاسْتَقَرَّ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ ; بَلْ يُقَالُ : هَذَا حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَقَوْلُهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِمَعْنَى إذْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لَا تَعْلِيقٌ . وَالرَّجُلُ قَدْ يَقُولُ : وَاَللَّهِ لَيَكُونَن كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ جَازِمٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ فَالْمُعَلَّقُ هُوَ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَاَللَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَهُ وَقَدْ يَقُولُ الْآدَمِيُّ لَأَفْعَلَن كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَقَعُ لَكِنْ يَرْجُوهُ فَيَقُولُ : يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَزْمُهُ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ جَازِمًا وَلَكِنْ لَا يَجْزِمُ بِوُقُوعِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَزْمُ مُتَرَدِّدًا مُعَلَّقًا بِالْمَشِيئَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ مَتَى كَانَ الْمَعْزُومُ عَلَيْهِ مُعَلَّقًا لَزِمَ تَعْلِيقُ بَقَاءِ الْعَزْمِ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْعَزْمِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا فِي مِثْلِ ذَلِكَ ; وَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ الْمُطَلِّقُ الْمُعَلِّقُ وَحَرْفُ " إنْ " لَا يُبْقِي الْعَزْمَ فَلَا بُدَّ إذَا دَخَلَ عَلَى الْمَاضِي صَارَ مُسْتَقْبَلًا تَقُولُ : إنْ جَاءَ زَيْدٌ كَانَ كَذَلِكَ { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } وَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي دَخَلَ حَرْفُ " إنْ " كَقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي } فَيُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ إيمَانِي . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ بِمَاذَا يُخْتَمُ لِي كَمَا قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : إنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ . قَالَ : فَلْيَشْهَدْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهَذَا مُرَادُهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ إيمَانِي حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ قَالَ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِ قَلْبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ وَيَقْطَعْ بِأَنَّهُ عَامِلٌ كَمَا أُمِرَ وَقَدْ تَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا كَانَ مِسْعَرُ بْنُ كدام يَقُولُ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي قَالَ أَحْمَد : وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ كَانَ يَقُولُ : هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي . وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ لِسُفْيَانَ بْنِ عيينة : أَلَا تَنْهَاهُ عَنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ جِنْسِ الْمُنَازَعَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . " وَأَمَّا جَهْمٌ فَكَانَ يَقُولُ : إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ; بَلْ
أَحْمَد وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ; وَلَكِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ وَاسْتَدْلَلْنَا بِتَكْفِيرِ الشَّارِعِ لَهُ عَلَى خُلُوِّ قَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ فِي " الْإِيمَانِ " . وَالْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ نَشَأَ النِّزَاعُ اعْتِقَادُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَظَنُّ بَعْضِهِمْ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ فَهَذَا كَانَ أَصْلَ الْإِرْجَاءِ كَمَا كَانَ " أَصْلُ الْقَدَرِ " عَجْزَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا فَلَمَّا كَانَ هَذَا أَصْلَهُمْ صَارُوا حِزْبَيْنِ . قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ وَإِذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَيَكُونُ أَصْحَابُ الذُّنُوبِ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ إذْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ . وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ " - مُقْتَصِدَتُهُمْ وَغُلَاتُهُمْ كالجهمية - قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ ; بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ . وَعَلِمْنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ ; فَإِنَّ الْكِتَابَ قَدْ أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ لَا بِقَتْلِهِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِجَلْدِ الشَّارِبِ لَا بِقَتْلِهِ فَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ لَوَجَبَ قَتْلُهُمْ ; وَبِهَذَا ظَهَرَ لِلْمُعْتَزِلَةِ ضِعْفُ قَوْلِ الْخَوَارِجِ فَخَالَفُوهُمْ فِي أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا . و " الْخَوَارِجُ " لَا يَتَمَسَّكُونَ مِنْ السُّنَّةِ إلَّا بِمَا فَسَّرَ مُجْمَلَهَا دُونَ مَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَرْجُمُونَ الزَّانِيَ وَلَا يَرَوْنَ لِلسَّرِقَةِ نِصَابًا وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرْتَدُّ عِنْدَهُمْ نَوْعَيْنِ . و " أَقْوَالُ الْخَوَارِجِ " إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مِنْ نَقْلِ النَّاسِ عَنْهُمْ لَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى كِتَابٍ مُصَنَّفٍ كَمَا وَقَفْنَا عَلَى كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .