مسألة تالية
متن:
و " النَّوْعُ الثَّانِي " هُوَ تَفَاضُلُ النَّاسِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْوَاجِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَكِلَاهُمَا مَحَلُّ النِّزَاعِ . وَهَذَا أَيْضًا يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ فَلَيْسَ إيمَانُ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ كَإِيمَانِ غَيْرِهِمْ وَلَا إيمَانُ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ كَإِيمَانِ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ دِينُ هَذَا وَبِرُّهُ وَتَقْوَاهُ مِثْلَ دِينِ هَذَا وَبِرِّهِ وَتَقْوَاهُ ; بَلْ هَذَا أَفْضَلُ دِينًا وَبِرًّا وَتَقْوَى فَهُوَ كَذَلِكَ أَفْضَلُ إيمَانًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ ; بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْعِبَادِ فِيمَا أَوْجَبَهُ الرَّبُّ مِنْ الْإِيمَانِ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْأَعْمَالِ فَغَلِطُوا فِي هَذَا وَهَذَا ثُمَّ تَفَرَّقُوا كَمَا تَقَدَّمَ . وَصَارَتْ الْمُرْجِئَةُ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فَعُلَمَاؤُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ أَحْسَنُهُمْ قَوْلًا ; وَهُوَ أَنْ قَالُوا : الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ . وَقَالَتْ الجهمية : هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ . [ وَقَالَتْ الْكَرَامِيَّةُ هُوَ الْقَوْلُ فَقَطْ ] فَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ لَكِنْ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِقَلْبِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كَانَ مُنَافِقًا مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ الْكَرَامِيَّةُ وَابْتَدَعَتْهُ . وَلَمْ يَسْبِقْهَا أَحَدٌ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ آخِرُ مَا أُحْدِثَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي الْإِيمَانِ وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ ; بَلْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ مُعَذَّبًا فِي النَّارِ بَلْ يَكُونُ مُخَلَّدًا فِيهَا . وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } . وَإِنْ قَالُوا لَا يُخَلَّدُ وَهُوَ مُنَافِقٌ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَالْمُنَافِقُونَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَقَالَ لَهُ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَقَالَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِنْ قَالُوا : هَؤُلَاءِ قَدْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَنْقُضُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ عَنْ الْإِيمَانِ . قِيلَ لَهُمْ : وَلَوْ أَضْمَرُوا النِّفَاقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ كَانُوا مُنَافِقِينَ . قَالَ تَعَالَى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } . وَأَيْضًا قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؟ فَقَالَ : أَوْ مُسْلِمٌ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا } . وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذَا لَهُ مَوَاضِعُ أُخَرُ وَقَدْ صَنَّفْت فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا غَيْرَ مَا صَنَّفْت فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ . وَكَلَامُ النَّاسِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَمُسَمَّاهُ كَثِيرٌ ; لِأَنَّهُ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ اسْمٌ عُلِّقَ بِهِ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاءُ وَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَعْظَمَ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ; وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا الْأَصْلُ " مَسَائِلَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَقَدْ رَأَيْت لِابْنِ الْهَيْصَمِ فِيهِ مُصَنَّفًا فِي أَنَّهُ قَوْلُ اللِّسَانِ فَقَطْ وَرَأَيْت لِابْنِ الباقلاني فِيهِ مُصَنَّفًا أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ وَكِلَاهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَكِلَاهُمَا يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ السَّلَفَ كَانَ اعْتِصَامُهُمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ . فَلَمَّا حَدَثَ فِي الْأُمَّةِ مَا حَدَثَ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ صَارَ أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ شِيَعًا . صَارَ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنْ عَلَى أُصُولٍ ابْتَدَعَهَا شُيُوخُهُمْ عَلَيْهَا يَعْتَمِدُونَ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ يُوَافِقُهَا مِنْ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهِ وَمَا خَالَفَهَا تَأَوَّلُوهُ ; فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ إذَا احْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْرِيرِ دَلَالَتِهِمَا وَلَمْ يَسْتَقْصُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى ; إذْ كَانَ اعْتِمَادُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْآيَاتُ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ يَشْرَعُونَ فِي تَأْوِيلِهَا شُرُوعَ مَنْ قَصَدَ رَدَّهَا كَيْفَ أَمْكَنَ ; لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُفْهَمَ مُرَادَ الرَّسُولِ ; بَلْ أَنْ يَدْفَعَ مُنَازِعَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا . وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ كالرازي والآمدي وَابْنِ الْحَاجِبِ - إنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ; بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى الضَّلَالِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ الْآيَةَ وَأَرَادَ بِهَا مَعْنًى لَمْ يَفْهَمْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ; وَلَكِنْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ وَهُمْ لَوْ تَصَوَّرُوا هَذِهِ " الْمَقَالَةَ " لَمْ يَقُولُوا هَذَا ; فَإِنَّ أَصْلَهُمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَا يَقُولُونَ قَوْلَيْنِ كِلَاهُمَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُولُوهُ ; لَكِنْ قَدْ اعْتَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا خَالَفَهُمْ وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ احْتِمَالٍ فِي لَفْظِ الْآيَةِ بِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَلَمْ يَسْتَشْعِرُوا أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ هُوَ مُبَيِّنٌ لِمُرَادِ الْآيَةِ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى إذَا حَمَلَهَا عَلَى مَعْنًى . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى وَالْأُمَّةُ قَبْلَهُمْ لَمْ يَقُولُوا أُرِيدَ بِهَا إلَّا هَذَا أَوْ هَذَا فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ الْأُمَّةَ وَأَخْبَرَتْ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ مَا أَرَادَهُ ; لَكِنْ الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ يَتَمَشَّى إذَا كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ بِأَنَّهُ مُرَادٌ وَتَكُونُ الْأُمَّةُ قَبْلَهُمْ كُلُّهَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِمُرَادِ اللَّهِ ضَالَّةً عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَانْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ ; وَلَكِنْ طَائِفَةٌ قَالَتْ : يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى وَطَائِفَةٌ قَالَتْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ عَلِمَ الْمُرَادَ فَجَاءَ الثَّالِثُ وَقَالَ : هَاهُنَا مَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فَإِذَا كَانَتْ الْأُمَّةُ مِنْ الْجَهْلِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالضَّلَالِ عَنْ مُرَادِ الرَّبِّ بِهَذِهِ الْحَالِ تَوَجَّهَ مَا قَالُوهُ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَصِيرُوا يَعْتَمِدُونَ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّلَفِ ; فَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ أَكْمَلَ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَخَطَؤُهُمْ أَخَفَّ وَصَوَابُهُمْ أَكْثَرَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ الَّذِي أَسَّسُوهُ هُوَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَصَفَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَأَنَّهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فَلَا يُخْبِرُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا غَيْرِ صِفَاتِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَ سُبْحَانَهُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ ; فَيَكُونُ خَبَرُهُمْ وَقَوْلُهُمْ تَبَعًا لِخَبَرِهِ وَقَوْلِهِ كَمَا قَالَ : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } وَأَعْمَالُهُمْ تَابِعَةٌ لِأَمْرِهِ فَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا مَا أَمَرَهُمْ هُوَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ فَهُمْ مُطِيعُونَ لِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ . وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ مَلَائِكَةَ النَّارِ فَقَالَ : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا تَوْكِيدٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَا يَعْصُونَهُ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَنَّ الْعَاصِيَ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ لِعَجْزِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَإِذَا قَالَ : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَإِنَّ الْعَاجِزَ لَيْسَ بِعَاصٍ وَلَا فَاعِلٍ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَقَالَ : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ لَا عَجْزًا وَلَا مَعْصِيَةً . وَالْمَأْمُورُ إنَّمَا يَتْرُكُ مَا أُمِرَ بِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا لَا يُرِيدُ الطَّاعَةَ فَإِذَا كَانَ مُطِيعًا يُرِيدُ طَاعَةَ الْآمِرِ وَهُوَ قَادِرٌ وَجَبَ وُجُودُ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ فَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمَذْكُورُونَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ . وَقَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُمْ { عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } فَالْمَلَائِكَةُ مُصَدِّقُونَ بِخَبَرِ رَبِّهِمْ مُطِيعُونَ لِأَمْرِهِ وَلَا يُخْبِرُونَ حَتَّى يُخْبِرَ وَلَا يَعْمَلُونَ حَتَّى يَأْمُرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ ; بَلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ رَسُولٌ مِنْ الْبَشَرِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ مَا بَلَّغَهُمْ عَنْ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قَالَ مُجَاهِدٌ : لَا تفتاتوا عَلَيْهِ بِشَيْءِ حَتَّى يَقْضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ ( تُقَدِّمُوا مَعْنَاهُ تَتَقَدَّمُوا وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَقَدْ قُرِئَ ( يُقَدِّمُوا يُقَالُ : قَدَّمَ وَتَقَدَّمَ كَمَا يُقَالُ : بَيَّنَ وَتَبَيَّنَ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ قَدَّمَ مُتَعَدِّيًا أَيْ قَدَّمَ غَيْرَهُ لَكِنْ هُنَا هُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ فَلَا تُقَدِّمُوا مَعْنَاهُ لَا تَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ ; بَلْ يَنْظُرُ مَا قَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُهُ تَبَعًا لِأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعْقُولِهِ وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ فَمِنْهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنْظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ فَهَذَا أَصْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَجْعَلُونَ اعْتِمَادَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الرَّسُولِ ; بَلْ عَلَى مَا رَأَوْهُ أَوْ ذَاقُوهُ ثُمَّ إنْ وَجَدُوا السُّنَّةَ تُوَافِقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ فَإِذَا وَجَدُوهَا تُخَالِفُهُ أَعْرَضُوا عَنْهَا تَفْوِيضًا أَوْ حَرَّفُوهَا تَأْوِيلًا . فَهَذَا هُوَ الْفُرْقَانُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ لَكِنَّ فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمُوا فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الرَّسُولَ وَلَوْ عَلِمُوا لَمَا قَالُوهُ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ نَاقِصِي الْإِيمَانِ مُبْتَدِعِينَ وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَصُوا بِهِ .