مسألة تالية
متن:
وَاسْتِخْدَامُ الْإِنْسِ لَهُمْ مِثْلُ اسْتِخْدَامِ الْإِنْسِ لِلْإِنْسِ بِشَيْءِ : مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَقَدْ يَظُنُّونَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُهُمْ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ إمَّا إحْضَارِ مَالِهِ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَكَانٍ فِيهِ مَالٌ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مَعْصُومٌ أَوْ دَفْعِ مَنْ يُؤْذِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا كَاسْتِعَانَةِ الْإِنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ فِي ذَلِكَ . و " النَّوْعُ الثَّالِثُ " أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِنْسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يَأْمُرُ الْإِنْسَ وَيَنْهَاهُمْ وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالٌ مَنْ اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَوْنَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ ; إذْ كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا بِذَلِكَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا نَادَى يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ قَالَ : إنَّ لِلَّهِ جُنُودًا يُبَلِّغُونَ صَوْتِي . وَجُنُودُ اللَّهِ هُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ صَالِحِي الْجِنِّ فَجُنُودُ اللَّهِ بَلَّغُوا صَوْتَ عُمَرَ إلَى سَارِيَةَ وَهُوَ أَنَّهُمْ نَادَوْهُ بِمِثْلِ صَوْتِ عُمَرَ وَإِلَّا نَفْسُ صَوْتِ عُمَرَ لَا يَصِلُ نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَدْعُو آخَرَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَيَقُولُ : يَا فُلَانُ فَيُعَانُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا يَا فُلَانُ وَقَدْ يَقُولُ لِمَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ يَا فُلَانُ احْبِسْ الْمَاءَ تَعَالَ إلَيْنَا وَهُوَ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيُنَادِيهِ الْوَاسِطَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَا فُلَانُ احْبِسْ الْمَاءَ أَرْسِلْ الْمَاءَ ; إمَّا بِمِثْلِ صَوْتِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ إلَّا صَوْتَهُ وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّ بِأَيِّ صَوْتٍ كَانَ إذَا عَرَفَ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نَادَاهُ . وَهَذِهِ حِكَايَةٌ : كَانَ عُمَرُ مَرَّةً قَدْ أَرْسَلَ جَيْشًا فَجَاءَ شَخْصٌ وَأَخْبَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِانْتِصَارِ الْجَيْشِ وَشَاعَ الْخَبَرُ فَقَالَ عُمَرُ : مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ؟ قَالُوا شَخْصٌ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ فَأَخْبَرَنَا فَقَالَ عُمَرُ ذَاكَ أَبُو الْهَيْثَمِ بَرِيدُ الْجِنِّ وَسَيَجِيءُ بَرِيدُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامِ . وَقَدْ يَأْمُرُ الْمَلِكُ بَعْضَ النَّاسِ بِأَمْرِ وَيَسْتَكْتِمُهُ إيَّاهُ فَيَخْرُجُ فَيَرَى النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ بِهِ فَإِنَّ الْجِنَّ تَسْمَعُهُ وَتُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ وَاَلَّذِينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْجِنَّ فِي الْمُبَاحَاتِ يُشْبِهُ اسْتِخْدَامَ سُلَيْمَانَ لَكِنْ أُعْطِيَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ بَعْدَهُ وَسُخِّرَتْ لَهُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَفَلَّتَ عَلَيْهِ الْعِفْرِيتُ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ قَالَ : { فَأَخَذْته فذعته حَتَّى سَالَ لُعَابُهُ عَلَى يَدِي وَأَرَدْت أَنْ أَرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ ذَكَرْت دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ فَأَرْسَلْته } فَلَمْ يَسْتَخْدِمْ الْجِنَّ أَصْلًا ; لَكِنْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَبَلَّغَهُمْ الرِّسَالَةَ وَبَايَعَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِالْإِنْسِ . وَاَلَّذِي أُوتِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِمَّا أُوتِيَهُ سُلَيْمَانُ ; فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا لِغَرَضِ يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا عَلَى أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا فداود وَسُلَيْمَانُ وَيُوسُفُ أَنْبِيَاءُ مُلُوكٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ رُسُلٌ عَبِيدٌ فَهُوَ أَفْضَلُ كَفَضْلِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَرَى هَذِهِ الْعَجَائِبَ الْخَارِقَةَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ لَمْ يَعْرِفُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ وَمَا لِأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مِنْ ذَلِكَ - مِنْ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَالْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ فَجَعَلُوا الْخَوَارِقَ جِنْسًا وَاحِدًا وَقَالُوا : كُلُّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَةً إذَا اقْتَرَنَتْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهَا .