تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْطَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ خَوَاتِيمَ ( سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُؤْتَ مِنْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ الْخَمْسِ وَالرَّدِّ عَلَى كُلِّ مُبْطِلٍ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَمَالِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ وَتَفْضِيلِهِ إيَّاهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فليهنه الْعَلَمُ وَلَوْ ذَهَبْنَا نَسْتَوْعِبُ الْكَلَامَ فِيهَا لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الْكِتَابِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ كليمات يَسِيرَةٍ تُشِيرُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فَنَقُولُ : لَمَّا كَانَتْ ( سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ وَأَكْثَرَ سُوَرِهِ أَحْكَامًا وَأَجْمَعَهَا لِقَوَاعِدِ الدِّينِ : أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ " أَقْسَامِ الْخَلْقِ " : الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذِكْرِ أَوْصَافِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ . وَذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إثْبَاتِ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَذِكْرِ نِعَمِهِ وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِ الْمَعَادِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ . ثُمَّ ذِكْرِ تَخْلِيقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ . ثُمَّ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَإِسْجَادِ مَلَائِكَتِهِ لَهُ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ ثُمَّ ذِكْرِ مِحْنَتِهِ مَعَ إبْلِيسَ وَذِكْرِ حُسْنِ عَاقِبَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . ثُمَّ ذِكْرِ " الْمُنَاظَرَةِ " مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ثُمَّ ذِكْرِ النَّصَارَى وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيرِ عُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ ثُمَّ تَقْرِيرِ النَّسْخِ وَالْحِكْمَةِ فِي وُقُوعِهِ . ثُمَّ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَتَقْرِيرِ تَعْظِيمِهِ وَذِكْرِ بَانِيهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَقْرِيرِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَسْفِيهِ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا وَوَصِيَّةِ بَنِيهِ بِهَا وَهَكَذَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَخَتَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِآيَاتِ جَوَامِعَ مُقَرِّرَةٍ لِجَمِيعِ مَضْمُونِ السُّورَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . فَأَخْبَرَ تَعَالَى : أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكُهُ وَحْدَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ انْفِرَادَهُ بِالْمُلْكِ الْحَقِّ وَالْمُلْكِ الْعَامِّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَتَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ فَتَضَمَّنَ نَفْيَ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ وَالشَّرِيكِ ; لِأَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَ مُلْكَهُ وَخَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ وَلَا شَرِيكٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِعَيْنِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ مَرْيَمَ فَقَالَ تَعَالَى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّغْبَةَ وَالسُّؤَالَ وَالطَّلَبَ وَالِافْتِقَارَ لَا يَكُونُ إلَّا إلَيْهِ وَحْدَهُ ; إذْ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكُهُ فَمَا تَصَرَّفَ خَلْقًا وَأَمْرًا إلَّا فِي مُلْكِهِ الْحَقِيقِيِّ وَكَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ مُشْتَمِلَةً مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ سُورَةٌ غَيْرُهَا - أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ فِي مُلْكِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فَهَذَا مُتَضَمِّنٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِمَّنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ مُلْكِهِ فَعِلْمُهُ عَامٌّ وَمُلْكُهُ عَامٌّ . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مُحَاسَبَتِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَهِيَ تَعْرِيفُهُمْ مَا أَبْدَوْهُ أَوْ أَخْفَوْهُ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِهِمْ وَتَعْرِيفَهُمْ إيَّاهُ ثُمَّ قَالَ : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ قِيَامَهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فَضْلًا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ قُدْرَتِهِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ كُلَّ مَقْدُورٍ وَاقِعٌ بِقَدَرِهِ فَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الثنوية وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ الْمَقْدُورَاتِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ - وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ . فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَإِثْبَاتَ الشَّرَائِعِ وَالنُّبُوَّاتِ وَإِثْبَاتَ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَإِثْبَاتَ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَعُمُومِهَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ ; لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ مَقْدُورًا وَلَا مَفْعُولًا . ثُمَّ إنَّ إثْبَاتَ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ سَائِرِ صِفَاتِهِ الْعُلَى وَلَهُ مِنْ كُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ حَسَنٌ فَيَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ مَا يُضَادُّ كَمَالِهِ فَيَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ الْمُنَافِي لِكَمَالِ غِنَاهُ وَكَمَالِ عِلْمِهِ ; إذْ الظُّلْمُ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ مُحْتَاجٍ أَوْ جَاهِلٍ وَأَمَّا الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الظُّلْمُ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَجْزُ الْمُنَافِي لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَالْجَهْلُ الْمُنَافِي لِكَمَالِ عِلْمِهِ . فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَعَارِفَ كُلَّهَا بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَفْصَحِ لَفْظٍ وَأَوْضَحِ مَعْنًى . وَقَدْ عَرَفْت بِهَذَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَقْتَضِي الْعِقَابَ عَلَى خَوَاطِرِ النُّفُوسِ الْمُجَرَّدَةِ ; بَلْ إنَّمَا تَقْتَضِي مُحَاسَبَةَ الرَّبِّ عَبْدَهُ بِهَا وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وَبَعْدَ مُحَاسَبَتِهِ بِهَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا فَمُرَادُهُ بَيَانُ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا وَذَلِكَ يُسَمَّى نَسْخًا فِي لِسَانِ السَّلَفِ كَمَا يُسَمُّونَ الِاسْتِثْنَاءَ نَسْخًا . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَهَذِهِ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِيمَانِهِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إعْطَاءَهُ ثَوَابَ أَكْمَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ - زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ - لِأَنَّهُ شَارَكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَنَالَ مِنْهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ وَامْتَازَ عَنْهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ : { أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَمِنْهُ نَزَلَ لَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَالَ : { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَهَذَا أَحَدُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ قَالُوا : فَلَوْ كَانَ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا مِنْ اللَّهِ ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا ; بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } فَإِنَّ تِلْكَ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَهِيَ مِنْهُ خَلْقًا وَأَمَّا " الْكَلَامُ " فَوَصْفٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ كَلَامُهُ ; إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ . ثُمَّ شَهِدَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا آمَنَ بِهِ رَسُولُهُمْ ثُمَّ شَهِدَ لَهُمْ جَمِيعًا بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إيمَانَهُمْ بِقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَة الَّتِي لَا يَكُونُ أَحَدٌ مُؤْمِنًا إلَّا بِهَا وَهِيَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُصُولَ الْخَمْسَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } فَالْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَتَضَمَّنَتْ الْإِيمَانَ بِالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ . وَقَالَ فِي وَسَطِهَا : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } ثُمَّ حَكَى عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فَنُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ فَلَا يَنْفَعُنَا إيمَانُنَا بِمَنْ آمَنَّا بِهِ مِنْهُمْ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَلِكَ ; بَلْ نُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ وَنُصَدِّقُهُمْ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَقَدْ جَمَعَتْهُمْ رِسَالَةُ رَبِّهِمْ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَنُعَادِي رُسُلَهُ وَنَكُونُ مُعَادِينَ لَهُ . فَبَايَنُوا بِهَذَا الْإِيمَانِ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِجِنْسِ الرُّسُلِ . وَالْمُصَدِّقِينَ لِبَعْضِهِمْ الْمُكَذِّبِينَ لِبَعْضِهِمْ . وَتَضَمَّنَ إيمَانُهُمْ بِاَللَّهِ إيمَانَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَبَايَنُوا بِذَلِكَ جَمِيعَ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ أَوْ لِشَيْءِ مِنْهُ ; فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ فَبَايَنُوا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعَ طَوَائِفَ الْكُفْرِ وَفِرَقِ أَهْلِ الضَّلَالِ الْمُلْحِدِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ . ثُمَّ قَالُوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِرُكْنَيْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِمَا وَهُمَا السَّمْعُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقَبُولِ ; لَا مُجَرَّدَ سَمْعِ الْإِدْرَاكِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ ; بَلْ سَمْعَ الْفَهْمِ وَالْقَبُولِ و " الثَّانِي " الطَّاعَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِكَمَالِ الِانْقِيَادِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ كَمَالَ إيمَانِهِمْ وَكَمَالَ قَبُولِهِمْ وَكَمَالَ انْقِيَادِهِمْ ثُمَّ قَالُوا : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُوَفُّوا مَقَامَ الْإِيمَانِ حَقَّهُ مَعَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَمِيلَ بِهِمْ غلبات الطِّبَاعِ وَدَوَاعِي الْبَشَرِيَّةِ إلَى بَعْضِ التَّقْصِيرِ فِي وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَا يَلُمُّ شَعَثُ ذَلِكَ إلَّا مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ سَأَلُوهُ غُفْرَانَهُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَعَادَتِهِمْ وَنِهَايَةُ كَمَالِهِمْ ; فَإِنَّ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ الْمَغْفِرَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } ثُمَّ اعْتَرَفُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَرَدَّهُمْ إلَى مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَقَالُوا : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ إيمَانَهُمْ بِهِ وَدُخُولَهُمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاضْطِرَارِهِمْ إلَى مَغْفِرَتِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ وَإِقْرَارِهِمْ بِرُجُوعِهِمْ إلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَنَفَى بِذَلِكَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِالْخَطَرَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهَا وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ تَكْلِيفِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُهُمْ إلَّا وُسْعَهُمْ فَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهُمْ مُطِيقُونَ لَهُ قَادِرُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فَكَلَّفَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَسَعُونَهُ وَأَعْطَاهُمْ مِنْ الرِّزْقِ مَا يَسَعُهُمْ فَتَكْلِيفُهُمْ يَسَعُونَهُ وَأَرْزَاقُهُمْ تَسَعُهُمْ فَهُمْ فِي الْوُسْعِ فِي رِزْقِهِ وَأَمْرِهِ : وَسِعُوا أَمْرَهُ وَوَسِعَهُمْ رِزْقَهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَسَعُ الْعَبْدَ وَمَا يَسَعُهُ الْعَبْدُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِرَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ وَغِنَاهُ ; لَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَّفَهُمْ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْمَلُونَهُ . وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إلَّا وُسْعَهَا } كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ أَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ مِنْ تَكَالِيفِهِ ; لَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ ; فَإِنَّ الْوُسْعَ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مَقْدُورٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ لَهُمْ وَلَا ضِيقٍ وَلَا حَرِجٍ ; بِخِلَافِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ وَلَكِنْ فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا وُسْعُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُ فِي سَعَةٍ فَهُوَ دُونَ مَدَى الطَّاقَةِ وَالْمَجْهُودِ ; بَلْ لِنَفْسِهِ فِيهِ مَجَالٌ وَمُتَّسَعٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلضِّيقِ وَالْحَرَجِ { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } بَلْ { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة فِي قَوْلِهِ : { إلَّا وُسْعَهَا } إلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا طَاقَتَهَا وَلَوْ كَلَّفَهَا طَاقَتَهَا لَبَلَغَ الْمَجْهُودُ . فَهَذَا فَهْمُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ كَلَّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَرَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ وَغَايَتَهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ انْتِفَاعِهِ بِكَسْبِهِمْ وَتَضَرُّرِهِ بِاكْتِسَابِهِمْ ; بَلْ لَهُمْ كَسْبُهُمْ وَنَفْعُهُ . وَعَلَيْهِمْ اكْتِسَابُهُمْ وَضَرَرُهُ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً مِنْهُ إلَيْهِمْ ; بَلْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَتَكَرُّمًا وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ بَلْ حَمِيَّةً وَحِفْظًا وَصِيَانَةً وَعَافِيَةً . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ نَفْسًا لَا تُعَذَّبُ بِاكْتِسَابِ غَيْرِهَا وَلَا تُثَابُ بِكَسْبِهِ فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَفِيهِ أَيْضًا إثْبَاتُ كَسْبِ النَّفْسِ الْمُنَافِي لِلْجَبْرِ . وَفِيهِ أَيْضًا اجْتِمَاعُ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَإِمَّا كَسَبَ خَيْرًا أَوْ اكْتَسَبَ شَرًّا لَمْ يُبْطِلْ اكْتِسَابُهُ كَسْبَهُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِحْبَاطِ وَالتَّخْلِيدِ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ وَلَيْسَ لَهُ مَا كَسَبَ فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَتَى فِيمَا لَهَا بِالْكَسْبِ الْحَاصِلِ وَلَوْ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَفِيمَا عَلَيْهَا بِالِاكْتِسَابِ الدَّالِّ عَلَى الِاهْتِمَامِ وَالْحِرْصِ وَالْعَمَلِ ; فَإِنَّ اكْتَسَبَ أَبْلَغُ مِنْ كَسَبَ فَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى غَلَبَةِ الْفَضْلِ لِلْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ لِلْغَضَبِ . ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ عُهُودًا مِنْهُ وَوَصَايَا وَأَوَامِرَ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَأَنْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا ; وَلَكِنَّ غَلَبَةَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ تَأْبَى إلَّا النِّسْيَانَ وَالْخَطَأَ وَالضَّعْفَ وَالتَّقْصِيرَ أَرْشَدَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يَسْأَلُوهُ مُسَامَحَتَهُ إيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَفَعَ مُوجَبَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أَيْ لَا تُكَلِّفْنَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي يَثْقُلُ حَمْلُهَا مَا كَلَّفْته مَنْ قَبْلَنَا ; فَإِنَّا أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَأَقَلُّ احْتِمَالًا . ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَكِّينَ مِمَّا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَكِّينَ مِمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ سَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ كَمَا سَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَقَالُوا : { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فَهَذَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْمَصَائِبِ وَقَوْلُهُمْ { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ فَسَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي النَّوْعَيْنِ . ثُمَّ سَأَلُوهُ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ ; فَإِنَّ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَتِمُّ لَهُمْ النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ وَلَا يَصْفُو عَيْشٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا مَدَارُ السَّعَادَةِ وَالْفَلَّاحِ فَالْعَفْوُ مُتَضَمِّنٌ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ قِبَلِهِمْ وَمُسَامَحَتِهِمْ بِهِ وَالْمَغْفِرَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِقَايَتِهِمْ شَرَّ ذُنُوبِهِمْ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ ; بِخِلَافِ الْعَفْوِ الْمُجَرَّدِ ; فَإِنَّ الْعَافِيَ قَدْ يَعْفُو وَلَا يُقْبِلُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ فَالْعَفْوُ تَرْكٌ مَحْضٌ وَالْمَغْفِرَةُ إحْسَانٌ وَفَضْلٌ وَجُودٌ وَالرَّحْمَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعَطْفِ وَالْبِرِّ فَالثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ النَّجَاةَ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَوْزَ بِالْخَيْرِ وَالنُّصْرَةُ تَتَضَمَّنُ التَّمْكِينَ مِنْ إعْلَانِ عِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَقَهْرِ أَعْدَائِهِ وَشِفَاءِ صُدُورِهِمْ مِنْهُمْ وَإِذْهَابِ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ وحزازات نُفُوسِهِمْ وَتَوَسَّلُوا فِي خِلَالِ هَذَا الدُّعَاءِ إلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ مَوْلَاهُمْ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَوْلَى لَهُمْ سِوَاهُ فَهُوَ نَاصِرُهُمْ وَهَادِيهِمْ وَكَافِيهِمْ وَمُعِينُهُمْ وَمُجِيبُ دَعَوَاتِهِمْ وَمَعْبُودُهُمْ . فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ وَانْقَادَتْ وَذَلَّتْ لِعِزَّةِ رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا وَأَجَابَتْهَا جَوَارِحُهُمْ أُعْطُوا كُلَّمَا سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْأَلُوا شَيْئًا مِنْهُ إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ فَعَلْت كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ الْجَلِيلَةِ الْمِقْدَارِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ . وَبَعْدُ فَفِيهَا مِنْ الْمَعَارِفِ وَحَقَائِقِ الْعُلُومِ مَا تَعْجِزُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ وَاَللَّهُ الْمَرْغُوبُ إلَيْهِ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا الْفَهْمَ فِي كِتَابِهِ إنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .