تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ ( سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } إلَى آخِرِهَا . قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { أَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلْت } وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ تَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته } وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْتُهِيَ بِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَعْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ : { إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قَالَ : فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ : فَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ } . قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ قَدْ أُجِيبَ فَطَلَبُ مَا فِيهِ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ عِبَادَةً مَحْضَةً لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ السُّؤَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ فِي جَمِيعِ الدُّعَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ - دَعَوْت أَوْ لَمْ تَدْعُ - فَجَعَلُوا الدُّعَاءَ تَعَبُّدًا مَحْضًا كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ أُخْرَى فِي التَّوَكُّلِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمَارَةً أَوْ عَلَامَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ سَبَبٌ يُفْعَلُ بِهِ ; بَلْ يَقْتَرِنُ أَحَدُ الْحَادِثَيْنِ بِالْآخَرِ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ النُّظَّارِ وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعَاصِي سَبَبٌ وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالسَّبَبِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمُسَبَّبُ بِلَا رَيْبٍ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أُجِيبَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : هَذَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ بِدُونِ دُعَائِنَا فَلَا يَبْقَى سَبَبًا وَلَا عَلَامَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ . أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِحِكْمَةِ كَمَا لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِسَبَبِ . وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَالْحُكْمَ يَقُولُونَ بَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعِبَادِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ أَطَاعُوهُ وَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِحِكْمَةِ وَمَا نَهَى عَنْهُ نَهَى لِحِكْمَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَامَّتِهَا فَالتَّعَبُّدُ الْمَحْضُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَةٌ لَمْ يَقَعْ . نَعَمْ قَدْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي كِلَيْهِمَا فَمِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْعَبْدُ بِدُونِ الْأَمْرِ حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ : كَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا إذْ أَمَرَ بِهِ صَارَ فِيهِ " حِكْمَتَانِ " حِكْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَحِكْمَةٌ فِي الْأَمْرِ فَيَبْقَى لَهُ حُسْنٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ إنَّمَا كَانَتْ حِكْمَتُهُ لَمَّا أَمَرَ بِهِ . وَكَذَلِكَ مَا نَسَخَ زَالَتْ حِكْمَتُهُ وَصَارَتْ فِي بَدَلِهِ كَالْقِبْلَةِ . وَإِذَا قَدَّرَ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَتْ فِيهِ حِكْمَةٌ أَصْلًا فَهَلْ يَصِيرُ بِنَفْسِ الْأَمْرِ فِيهِ حِكْمَةُ الطَّاعَةِ ؟ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّعَبُّدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ الْأَمْرِ لِكُلِّ شَيْءٍ ; لَكِنْ يُجْعَلُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ فَإِذَا فُعِلَ صَارَ الْعَبْدُ بِهِ مُطِيعًا كَنَهْيِهِمْ عَنْ الشُّرْبِ إلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ يُحَضُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ فِي الْفِعْلِ مَتَى اعْتَقَدَهُ الْعَبْدُ وَعَزَمَ عَلَى الِامْتِثَالِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَإِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَكَحَدِيثِ أَقْرَعَ وَأَبْرَصَ وَأَعْمَى لَمَّا طُلِبَ مِنْهُمْ إعْطَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ فَامْتَنَعَ الْأَبْرَصُ وَالْأَقْرَعُ فَسُلِبَا النِّعْمَةَ وَأَمَّا الْأَعْمَى فَبَذَلَ الْمَطْلُوبَ فَقِيلَ لَهُ أَمْسِكْ مَالَك فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ عَنْك وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْك وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَدْ يُؤْمَرُ الْعَبْدُ وَيُنْهَى وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ طَاعَتَهُ لِلْأَمْرِ وَانْقِيَادَهُ لَهُ وَبَذْلَهُ لِلْمَطْلُوبِ كَمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ إبْرَاهِيمَ تَقْدِيمَ حُبِّ اللَّهِ عَلَى حُبِّهِ لِابْنِهِ حَتَّى تَتِمَّ خُلَّتُهُ بِهِ قَبْلَ ذَبْحِ هَذَا الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَقَوِيَ عَزْمُهُ بِإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ تَحَقَّقَ بِأَنَّ اللَّهَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مَحْبُوبٌ يُزَاحِمُ مُحِبَّةَ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ طَالُوتَ اُبْتُلُوا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الشُّرْبِ لِيَحْصُلَ مِنْ إيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَافَقَةُ وَالِابْتِلَاءُ هَاهُنَا كَانَ بِنَهْيٍ لَا بِأَمْرِ وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ { إنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَغَيْرُهُمَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا حِكْمَةَ ; بَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ وَابْتِلَاءٌ مَحْضٌ . وَأَمَّا فِعْلُ مَأْمُورٍ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ إلَّا مُجَرَّدَ الطَّاعَةِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَفْعَلُونَهُ فَهَذَا لَا أَعْرِفُهُ بَلْ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نُسِخَ بَعْدَ الْعَزْمِ كَمَا نُسِخَ إيجَابُ الْخَمْسِينَ صَلَاةً إلَى خَمْسٍ . و " الْمُعْتَزِلَةُ " تُنْكِرُ الْحِكْمَةَ النَّاشِئَةَ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ ; وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ كَاشِفٌ عَنْ حُسْنِ الْفِعْلِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِهِ لَا مُثْبِتٌ لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُسْنِ وَغَلِطُوا فِي الْمُقَدَّمَتَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَاشِفًا عَنْ حُسْنِ الْفِعْلِ فَالْفِعْلُ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ لَهُ حُسْنٌ آخَرُ غَيْرُ الْحُسْنِ الْأَوَّلِ وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْآمِرِ الِامْتِحَانَ لِلطَّاعَةِ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ بِحُسْنِ فِي نَفْسِهِ وَيَنْسَخُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ طَاعَةِ الْمَأْمُورِ وَعَزْمِهِ وَانْقِيَادِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا . والجهمية تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ حِكْمَةٌ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَعَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ لَيْسَ بَعْضُهَا حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ قَدْ وَافَقَتْهُمْ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُمَا أَصْلَانِ مُبْتَدَعَانِ ; فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِحِكْمَةِ وَيَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَمَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَرْضَى ذَلِكَ وَلَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَ وُجُودَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } فَإِنَّ نَفْسَ السُّجُودِ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَلَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لِلَّهِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ انْتَفَعَ كَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْعَبْدِ حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا دُعَاءٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَدْعُوُّ بِهَا فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أُمُورٌ مَطْلُوبَةٌ لِلْعِبَادِ . وَقَدْ أُجِيبَ بِجَوَابِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا قَدَّرَ أَمْرًا فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ أَسْبَابَهُ وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ النَّصْرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُقُوعِهِ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ وَبِمَصَارِعِ الْقَوْمِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ اسْتِغَاثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَاؤُهُ وَكَذَلِكَ مَا وَعَدَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ الْوَسِيلَةِ وَقَدْ قَضَى بِهَا لَهُ وَقَدْ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِطَلَبِهَا لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَهَا بِأَسْبَابِ مِنْهَا مَا سَيَكُونُ مِنْ الدُّعَاءِ . وَعَلَى هَذَا فَالدَّاخِلُ فِي السَّبَبِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُثِيبُ هَذَا الدَّاعِيَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الدُّعَاءِ بِجَعْلِهِ تَمَامَ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ سَبَبًا فِي اخْتِصَاصِهِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ; بَلْ فِي حُصُولِهِ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ ; لَكِنْ هُوَ يُثَابُ عَلَى الدُّعَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ مِنْ الذُّنُوبِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنْ الْبَلَاءِ مِثْلَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ } فَالدَّاعِي بِهَذَا كَالدَّاعِي بِالْوَسِيلَةِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَخُصُّهُ كَالدَّاعِي لِلْأُمَّةِ وَلِأَخِيهِ الْغَائِبِ وَدُعَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الَّتِي بِهَا رَحْمَةُ الْأُمَّةِ كَمَا يُثَابُ عَلَى سُؤَالِهِ الْوَسِيلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَحِلَّ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَهُنَا " جَوَابٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَدْعُوِّ الْمَطْلُوبِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الدُّعَاءُ بِهِ كَدُعَائِهِ بِسَائِرِ مَطَالِبِهِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَدُعَاءِ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ ; فَإِنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ هُنَاكَ : وَلَك بِمِثْلِهِ فَيَدْعُو لَهُ الْمَلَكُ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ لِلْغَائِبِ وَهُنَا هُوَ دَاعٍ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ . وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الشَّرْعَ وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِهِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ يَضَعُ عَنْ أُمَّتِهِ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ وَسَأَلَ رَبَّهُ لِأُمَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ ; لَكِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ آحَادِ الْأُمَّةِ قَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا عَصَى اللَّهَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْعَاصِي عُوقِبَ عَنْ ذَلِكَ بِسَلْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُنْسَخُ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ فِي هَذَا الدُّعَاءِ سُؤَالَ اللَّهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْكُفَّارِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حَاصِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْصَرُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْلَبُ الرِّزْقَ لِكَوْنِهِمْ فَرَّطُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُسْلَبُونَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا فَرَّطُوا أَوْ قَصَّرُوا وَقَوْلُ اللَّهِ : " قَدْ فَعَلْت " يُقَالُ فِيهِ شَيْئَانِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ نَقَصَ إيمَانُهُ الْوَاجِبُ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ سَلْبِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَدْرِ النَّقْصِ وَيُعَوِّقُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَاذَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الْجَزَاءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . ( الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَذَا الدُّعَاءُ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ثُبُوتُهُ لِكُلِّ فَرْدٍ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ ; فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْمَطْلُوبِ لِجُمْلَةِ الْأُمَّةِ حَاصِلٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { سَأَلْت رَبِّي لِأُمَّتِي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْته أَنْ لَا يَهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا . وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنِّي إذَا قَضَيْت قَضَاءً لَمْ يُرَدَّ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ الذُّنُوبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَلِفُوا ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمَ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَنُو آدَمَ إلَّا كَذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْقِتَالِ وَالذُّنُوبِ دَلِيلًا عَلَى نَقْصِهَا ; بَلْ هِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ وَهَذَا الْوَاقِعُ بَيْنَهُمْ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ وَخَيْرُ غَيْرِهَا أَقَلُّ وَالْخَيْرُ فِيهَا أَكْثَرُ وَالشَّرُّ فِيهَا أَقَلُّ فَكُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ فِيهَا أَعْظَمُ وَكُلُّ شَرٍّ فِيهَا فَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَعْظَمُ . وَأَمَّا حُصُولُ الْمَطْلُوبِ لِلْآحَادِ مِنْهَا فَلَا يَلْزَمُ حُصُولُهُ لِكُلِّ عَاصٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ وَلَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ لِلْعَاصِي مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا مَعَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ بِحَسَبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ الْخِلْقِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَأَمَّا دَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَدَفْعُ الْآصَارِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُشْكِلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَيُقَالُ : الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ الْمَرْفُوعُ عَنْ الْأُمَّةِ مَرْفُوعٌ عَنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ ; فَإِنَّ الْعَاصِيَ لَا يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ; فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ نَاسِيًا أَتَمَّ صَوْمَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ عَاصِيًا فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْكِلُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ شَيْئًا نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ ; إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُفْتِيهِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ . وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بُطْلَانَ الْعِبَادَاتِ أَوْ بَعْضِهَا بِهِ كَمَنْ يُبْطِلُ الصَّوْمَ بِالنِّسْيَانِ وَآخَرُونَ بِالْخَطَأِ وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَخَفِيَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا عُقُوبَةً لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ ثِقَةً إلَّا هَؤُلَاءِ فَيُفْتُونَهُ بِمَا يَقْتَضِي مُؤَاخَذَتَهُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَلَا يَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ لَا لِنَسْخِ الشَّرِيعَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِمَّا يُعَاقِبُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الذُّنُوبِ سَلْبَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ كَقَوْلِهِ : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } وَقَالَ : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } وَقَالَ : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَالَ : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } وَقَالَ : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ فَشَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ لَا تَنْسَخُ وَلَا تُعَاقِبُ أُمَّتَهُ كُلَّهَا بِهَذَا وَلَكِنْ قَدْ تُعَاقِبُ ظَلَمَتَهُمْ بِهَذَا بِأَنْ يُحْرَمُوا الطَّيِّبَاتِ أَوْ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ : إمَّا تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْثُهُمْ وَتَهْلَكَ ثِمَارُهُمْ وَتُقْطَعَ الْمِيرَةُ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ لَذَّةَ مَأْكَلٍ وَلَا مَشْرَبٍ وَلَا منكح وَلَا مَلْبَسٍ وَنَحْوِهِ كَمَا كَانُوا يَجِدُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْغُصَصُ وَمَا يُنَغِّصُ ذَلِكَ وَيُعَوِّقُهُ وَيَجْرَعُونَ غُصَصَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَقَالَ : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ } { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ } وَقَالَ : { إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } فَيَكُونُ هَذَا كَابْتِلَاءِ أَهْلِ السَّبْتِ بِالْحِيتَانِ . وَإِمَّا أَنْ يُعَاقَبُوا بِاعْتِقَادِ تَحْرِيمِ مَا هُوَ طَيِّبٌ حَلَالٌ لِخَفَاءِ تَحْلِيلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأُمَّةِ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ فَرَوَّجَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقَعُونَ فِيهِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ ; لَكِنْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا بِحِرْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي يَعْلَمُونَ بِهِ الْحِلَّ فَصَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا وَتَحْرِيمًا شَرْعِيًّا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ ; فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِلِّ كَانَ عَجْزُهُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا كَضَمَانِ الْبَسَاتِينِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِخَفَاءِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَثَبَتَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِمْ بِمَا ظَنُّوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُعَاقَبُ بِأَنْ يُخْفَى عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالشَّرَابِ الطَّيِّبِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَوْ عَلِمَهُ ; لَكِنْ لَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا ضَمِنَ هَذَا لِلْمُتَّقِينَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَتِهِ مِنْ الْأُمَّةِ قَدْ يُؤَاخَذُونَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمِنْ غَيْرِ نَسْخٍ بَعْدَ الرَّسُولِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ التَّيْسِيرِ وَلِعَدَمِ عِلْمِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُصَلِّي [ فِي السَّفَرِ قَصْرًا ] يَرَى الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ حَرَامًا فَيَصُومُ فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّاعَةِ ; لَكِنَّهُ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ مَا يُكَفِّرُهُ كَمَا يُكَفِّرُ خَطَايَا الْمُؤْمِنِينَ بِسَائِرِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا . وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّرْبِيعَ فِي السَّفَرِ وَاجِبًا فَيُرَبِّعُ فَيُبْتَلَى بِذَلِكَ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّاعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا مُبَاحٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ ; لَكِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمْهُ ; فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ إصْرًا وَلَمْ تُوضَعْ عَنْهُمْ جَمِيعُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَدْ وَضَعَهَا لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا . وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ بِمُطَاعِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ آصَارًا وَأَغْلَالًا مِنْ جِهَةِ مُطَاعِهِمْ : مِثْلُ حَاكِمٍ وَمُفْتٍ وَنَاظِرِ وَقْفٍ وَأَمِيرٍ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ ; لِاعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ وَيَكُونُ عَدَمُ عَلَمِ مُطَاعِيهِمْ تَيْسِيرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فِي حَقِّهِمْ لِذُنُوبِهِمْ كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَارَ بِهِمْ فِي طَرِيقٍ يَضُرُّهُمْ وَعَدَلَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى لِجَهْلِهِ لَا لِتَعَمُّدِهِ مَضَرَّتِهِمْ أَوْ أَقَامَ بِهِمْ فِي بَلَدٍ غَالِي الْأَسْعَارِ مَعَ إمْكَانِ الْمُقَامِ بِبَلَدِ آخَرَ . وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا قَدْ يُبْتَلَوْنَ بِمُطَاعِ يَظْلِمُهُمْ وَيَقْصِدُ ظُلْمَهُمْ يُبْتَلَوْنَ أَيْضًا بِمُطَاعِ يَجْهَلُ مَصْلَحَتَهُمْ الشَّرْعِيَّةَ وَالْكَوْنِيَّةَ فَيَكُونُ جَهْلُ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ عُقُوبَتِهِمْ كَمَا أَنَّ ظُلْمَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَضَرَّتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُمْ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ لِذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ لَيْسَ فِي شَرْعِهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ فَلِهَذَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ حُكَّامُ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَتُسَاقُ إلَيْهِمْ الْأَعْدَاءُ وَتُقَادُ بِسَلَاسِلِ الْقَهْرِ وَالْقَدَرِ وَذَلِكَ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُمْ مَعَ عُقُوبَاتٍ لَا تُحْصَى ; وَذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّاعَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَمَكُّنِ الْمَعَاصِي وَحُبِّ الشَّهَوَاتِ فِيهَا فَإِذَا قَالُوا { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } دَخَلَ فِيهِ هَذَا .