تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ : شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ; فَتَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلشِّرْكِ وَتَضَمَّنَتْ عَدْلَهُ الْمُنَافِيَ لِلظُّلْمِ وَتَضَمَّنَتْ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلذُّلِّ وَالسَّفَهِ وَتَضَمَّنَتْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الْعَدْلِ وَإِثْبَاتُ الْحِكْمَةِ وَإِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ تَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ ; لَكِنَّ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى خُصُومِهِمْ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ; الَّذِينَ يَقُولُونَ : كُلُّ مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَيَنْفُونَ الْحِكْمَةَ . فَيَقُولُونَ : يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ ; فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَهُمْ يُسَمُّونَ نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا ; بَلْ الْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ مَحَبَّةِ الْمَعْبُودِ . وَالْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ ; فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لَمْ يَشْهَدْ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ : إنَّ ذَاتَه لَا تُحَبُّ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ إلَهِيَّتَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ مَقْرُونٌ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ; فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَجْعَلُ الْقِسْطَ مِنْهُ مِثْلَ الْقِسْطِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ; فَمَا كَانَ عَدْلًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَدْلًا مِنْ الْخَالِقِ وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . والجهمية عِنْدَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَمْكَنَ وُقُوعُهُ كَانَ قِسْطًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ : { قَائِمًا بِالْقِسْطِ } كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا مَدْحَ ; فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ مَقْدُورٍ قِسْطًا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَدْحٌ وَلَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ; بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْقِسْطِ لَا بِالظُّلْمِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ; لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ مُنَزَّهٌ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا كَمَا قَالَ : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } وَقَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَقَالَ : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } فَهُوَ يَقُومُ عَلَيْهَا بِكَسْبِهَا لَا بِكَسْبِ غَيْرِهَا وَهَذَا مِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ . وَقَالَ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } الْآيَةَ . وَأَيْضًا فَمِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ وَقِيَامِهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ : أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } إلَى آخِرِهَا . وَالْمُعْتَزِلَةُ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ الْكَثِيرَةَ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُحْبِطُ إيمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدُوا بِهِ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَهُمْ يَنْسُبُونَ اللَّهَ إلَى الظُّلْمِ لَا إلَى الْعَدْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .