تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } فَأُمِرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يُقَالُ : هُوَ ذِكْرُهُ فِي قَلْبِهِ بِلَا لِسَانِهِ ; لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وَقَدْ يُقَالُ وَهُوَ أَصَحُّ : بَلْ ذِكْرُ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ وَقَوْلُهُ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ : لَا تَجْهَرْ بِالْقُرْآنِ فَيَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلَا تُخَافِتْ بِهِ عَنْ أَصْحَابِك فَلَا يَسْمَعُوهُ } . فَنَهَاهُ عَنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ . فَالْمُخَافَتَةُ هِيَ ذِكْرُهُ فِي نَفْسِهِ وَالْجَهْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْجَهْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَدُونَ الْجَهْرِ } فَإِنَّ الْجَهْرَ هُوَ الْإِظْهَارُ الشَّدِيدُ يُقَالُ : رَجُلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ وَرَجُلٌ جَهِيرٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَقَالَ : { إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } فَالْإِخْفَاءُ قَدْ يَكُونُ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ وَهُوَ الْمُنَاجَاةُ وَالْجَهْرُ مِثْلُ الْمُنَادَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } " وَنَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ رَبِّهِ " { مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي . وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ } " وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ قَسِيمَ الذِّكْرِ فِي الْمَلَأِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ الْمَشْرُوعَ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ هُوَ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ مِثْلَ صَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ عَقِبَ الصَّلَاتَيْنِ وَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهُ وَفَعَلَهُ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مِنْ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمَشْرُوعَةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ذِكْرُ اللَّهِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ ; لَكِنْ يَكُونُ الذِّكْرُ فِي النَّفْسِ كَامِلًا وَغَيْرَ كَامِلٍ ; فَالْكَامِلُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ وَغَيْرُ الْكَامِلِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ . وَيُشْبِهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ كَلَامُ النَّفْسِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَجَابَ عَنْهَا أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلًا خَفِيًّا . و " الثَّانِي " أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالنَّفْسِ وَإِذَا قُيِّدَ الْقَوْلُ بِالنَّفْسِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمُقَيَّدِ خِلَافُ دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " فَقَوْلُهُ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَيْسَ هُوَ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِاللِّسَانِ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وَجَعَلُوا الْقَوْلَ الْمُسَرَّ فِي الْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ ; لِقَوْلِهِ : { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ يُسَرُّ بِهِ تَارَةً وَيُجْهَرُ بِهِ أُخْرَى وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ بِحُرُوفِ مَسْمُوعَةٍ . وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلِيمًا بِذَاتِ الصُّدُورِ فَعِلْمُهُ بِالْقَوْلِ الْمُسَرِّ وَالْمَجْهُورِ بِهِ أَوْلَى . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } .