تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ ثُمَّ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَ فَسَوَّى فَإِنْ لَمْ يَهْدِهِ إلَى تَمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا فَسَدَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُهْدَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ . وَتِلْكَ الْغَايَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْخَالِقِ . فَإِنَّ الْعِلَّةَ الغائية هِيَ أَوَّلٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ آخِرٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَالِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا خَلَقَ . فَإِنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ وَأَرَادَ الْغَايَةَ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ الْحَيُّ مَا لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ . وَالصَّانِعُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا فَقَدْ عَلِمَهُ وَأَرَادَهُ وَقَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يَصْنَعُهُ وَالْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا وَمَا الَّذِي يُوَصِّلُهُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ وَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } . فَقَدْ قَدَّرَ سُبْحَانَهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ حِين كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ : اُكْتُبْ . فَقَالَ مَا أَكْتُبُ ؟ فَقَالَ : اُكْتُبْ مَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَأَحَادِيثُ تَقْدِيرِهِ سُبْحَانَهُ وَكِتَابَتِهِ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . رَوَى ابْنُ [ أَبِي ] حَاتِمٍ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ بِقُدْرَتِهِ وَدَبَّرَ الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَعَلِمَ مَا الْعِبَادُ صَائِرُونَ إلَيْهِ وَمَا هُوَ خَالِقٌ وَكَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَخَلَقَ اللَّهُ لِذَلِكَ جَنَّةً وَنَارًا فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَوْلِيَائِهِ وَعَرَّفَهُمْ وَأَحَبَّهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ وَوَفَّقَهُمْ وَعَصَمَهُمْ وَتَرَكَ أَهْلَ النَّارِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ وَأَضَلَّهُمْ وَأَزَلَّهُمْ . فَخَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ مَا يُشَاكِلُهُ فِي خَلْقِهِ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ رِزْقِهِ فِي بَرٍّ أَوْ فِي بَحْرٍ . فَجَعَلَ لِلْبَعِيرِ خَلْقًا لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ . وَكَذَلِكَ كَلُّ دَابَّةٍ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَا يُشَاكِلُهَا فِي خَلْقِهَا فَخَلْقُهُ مُؤْتَلِفٌ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ثِنَا أَبِي ثِنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ مهران الْقَزَّازُ نا حِبَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْت الضَّحَّاكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } قَالَ الضَّحَّاكُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثِنَا طَلْحَةُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ . خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا وَأَجَّلَ أَجَلًا وَقَدَّرَ رِزْقًا وَقَدَّرَ مُصِيبَةً وَقَدَّرَ بَلَاءً وَقَدَّرَ عَافِيَةً . فَمَنْ كَفَرَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ . وَقَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ثِنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الجزري عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جريح عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْ زَمْزَمَ وَقَدْ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْت لَهُ : قَدْ تُكُلِّمَ فِي الْقَدَرِ . فَقَالَ : أو [ قَدْ ] فَعَلُوهَا ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إلَّا فِيهِمْ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أُولَئِكَ شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ . إنْ رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْت عَيْنَيْهِ بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الجنيد حَدَّثَنَا سَهْلٌ الْخَيَّاطُ ثِنَا أَبُو صَالِحٍ الحداني نا حِبَّانُ بْنُ عُبَيْدٍ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْت الضَّحَّاكَ عَنْ قَوْلِهِ : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } . قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ لِيَجْرِيَ بِإِذْنِهِ وَعِظَمُ الْقَلَمِ كَقَدْرِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ الْقَلَمُ : بِمَا يَا رَبِّ أُجْرِي ؟ فَقَالَ . " بِمَا أَنَا خَالِقٌ وَكَائِنٌ فِي خَلْقِي مِنْ قُطْرٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ أَثَرٍ يَعْنِي بِهِ الْعَمَلَ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ " . فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَأَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ عِنْدَهُ تَحْتَ الْعَرْشِ .