مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
فَصْلٌ وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ الْمَلَاحِدَةُ الْمُدَّعُونَ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ : مَا يَأْثُرُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ } عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ } كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ لَا كِبَارِهَا وَلَا صِغَارِهَا وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِسْنَادِ لَا صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا بِإِسْنَادِ مَجْهُولٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ : بَعْضُ مُتَأَخِّرِي مُتَكَلِّمَةِ الجهمية فَتَلَقَّاهَا مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَلُوا إلَى آخِرِ التَّجَهُّمِ - وَهُوَ التَّعْطِيلُ وَالْإِلْحَادُ - . وَلَكِنَّ أُولَئِكَ قَدْ يَقُولُونَ : كَانَ اللَّهُ وَلَا مَكَانٌ وَلَا زَمَانٌ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ هَؤُلَاءِ بِالْإِسْلَامِ ابْنُ عَرَبِيٍّ فَقَالَ فِي كِتَابٍ : ( مَا لَا بُدَّ لِلْمُرِيدِ مِنْهُ ) وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ } قَالَ : " وَزَادَ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ الْعَالَمَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَا عَالَمٌ مَوْجُودٌ فَاعْتَقِدْ فِيهِ مِنْ التَّنْزِيهِ مَعَ وُجُودِ الْعَالَمِ مَا تَعْتَقِدُهُ فِيهِ وَلَا عَالَمَ وَلَا شَيْءَ سِوَاهُ " . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا لَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِ ; لَكِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَلِهَذَا كَانَ مُقَدَّمُ الِاتِّحَادِيَّةِ الْفَاجِرُ التلمساني : يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ يَقْرَبُ فِيهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا إلَى الِاتِّحَادِ . وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْإِلْحَادِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ قَصَدَ بِهَا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ نَفْيَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ ; مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالُوا : كَانَ فِي الْأَزَلِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَرْشِ لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ . وَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ بِجَوَابَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ : بِمَنْزِلَةِ الْمَعِيَّةِ وَيُسَمِّيهَا ابْنُ عَقِيلٍ الْأَحْوَالَ . وَتَجَدُّدُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ; إذْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرًا وَلَا اسْتِحَالَةً . ( وَالثَّانِي ) أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ اقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمِنْ شَأْنٍ إلَى شَأْنٍ فَهُوَ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَنُزُولِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَهُوَ لَازِمٌ لِسَائِرِ الْفِرَقِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا نِزَاعَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فِي قَاعِدَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ وَالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الجهمية الِاتِّحَادِيَّةُ فَقَالُوا : وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَمَا كَانَ فِي الْأَزَلِ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ قَالُوا : إذْ الْكَائِنَاتُ لَيْسَتْ غَيْرَهُ وَلَا سِوَاهُ فَلَيْسَ إلَّا هُوَ : فَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ لَا أَزَلًا وَلَا أَبَدًا ; بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَنَفْسُ الْكَائِنَاتِ وَجَعَلُوا الْمَخْلُوقَاتِ الْمَصْنُوعَاتِ : هِيَ نَفْسُ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ . وَهُمْ دَائِمًا يَهْذُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ : { وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ } وَهِيَ أَجَلُّ عِنْدَهُمْ مِنْ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَمِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّحَادِ الَّذِي هُوَ إلْحَادُهُمْ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا مِنْ كَلَامِهِ وَمِنْ أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهَا ; وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هِيَ شَيْءٌ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ ; بَلْ اتَّفَقَ الْعَارِفُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَلَا تُنْقَلُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَنْ إمَامٍ مَشْهُورٍ فِي الْأُمَّةِ بِالْإِمَامَةِ وَإِنَّمَا مَخْرَجُهَا مِمَّنْ يُعْرَفُ بِنَوْعِ مِنْ التَّجَهُّمِ وَتَعْطِيلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ : { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ } وَهَذَا إنَّمَا يَنْفِي وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ ; لَا يَنْفِي وُجُودَ الْعَرْشِ . وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إلَى أَنَّ الْعَرْشَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْقَلَمِ وَاللَّوْحِ . مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ فَقَالَ : وَمَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَهَذَا نَظِيرُ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ العقيلي الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ فَقَالَ : كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ } فَالْخَلْقُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَمَاءُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ السَّحَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ - كَلَامٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ وُجُوهٌ : - ( أَحَدُهَا ) أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ مَعَ عِبَادِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْكِتَابِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِثْلُ قَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وَقَوْلُهُ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { أَيْنَ مَا كَانُوا } وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } فِي مَوْضِعَيْنِ وَقَوْلُهُ : { إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } { وَقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ } { إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَافَرَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا } فَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ عُمُومًا وَخُصُوصًا لَيْسُوا غَيْرَهُ وَلَا هُمْ مَعَهُ بَلْ مَا مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ : امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعَ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ تُوجِبُ شَيْئَيْنِ : كَوْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ مَعَ هَؤُلَاءِ عُلِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ : { هُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ } لَا شَيْءَ مَعَهُ ; بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْمُقَارَنَةُ وَالْمُصَاحَبَةُ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مَعَ الْآخَرِ : امْتَنَعَ أَلَّا يَكُونَ الْآخَرُ مَعَهُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ وُجُودٌ مَعَهُ وَلَا حَقِيقَةٌ أَصْلًا بَلْ هُمْ هُوَ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وَقَالَ : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } . فَنَهَاهُ أَنْ يَجْعَلَ أَوْ يَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ وَلَمْ يَنْهَهُ أَنْ يُثْبِتَ مَعَهُ مَخْلُوقًا أَوْ يَقُولَ : إنَّ مَعَهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا أَوْ مَرْبُوبًا فَقِيرًا أَوْ مَعَهُ شَيْئًا مَوْجُودًا خَلَقَهُ كَمَا قَالَ : { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } وَلَمْ يَقُلْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا هُوَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا شَيْءَ مَعَهُ إلَّا هُوَ : بِمَعْنَى أَنَّهُ نَفْسُ الْمَوْجُودَاتِ وَعَيْنُهَا . وَهَذَا كَمَا قَالَ : { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } فَأَثْبَتَ وَحْدَانِيَّتَهُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الْمَوْجُودَاتِ وَاحِدٌ فَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ : هُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا تَجْعَلَ مَعَهُ وَلَا تَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ الْوُجُودِ هُوَ إيَّاهُ ؟ . وَأَيْضًا : فَنَهْيُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ أَوْ يَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ دَعَوْا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْآلِهَةُ هِيَ إيَّاهُ - وَلَا شَيْءَ مَعَهُ أَصْلًا - امْتَنَعَ أَنْ يُدْعَى مَعَهُ آلِهَةٌ أُخْرَى . فَهَذِهِ النُّصُوصُ : تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعَهُ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِآلِهَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ آلِهَةً وَلَا تُدَّعَى آلِهَةً وَأَيْضًا فَعِنْدَ الْمُلْحِدِينَ يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ كُلُّ شَيْءٍ ; وَيُدْعَى كُلُّ شَيْءٍ ; إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَشْيَاءُ . فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ : أَنْ يَدْعُوَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; وَهُوَ عِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ مَا دَعَا مَعَهُ إلَهًا آخَرَ فَجَعَلَ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ شِرْكًا : جَعَلَهُ تَوْحِيدًا وَالشِّرْكُ عِنْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِحَالِ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ : لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا دَوَابُّ وَلَا شَجَرٌ وَلَا جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ وَلَا جِبَالٌ وَلَا بِحَارٌ . فَإِنْ كَانَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ : فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ وَكُفْرٌ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنْ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ فِيمَا بَعْدُ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْكِتَابَةِ وَقَبْلَهَا وَهُوَ عَيْنُ الْكِتَابَةِ وَاللَّوْحُ عِنْدَ الْفَرَاعِنَةِ الْمَلَاحِدَةِ .