تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْمُرْسَلِينَ فِي أُمُورٍ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . وَفِي حَدِيثِ { أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَ اللَّهُ ؟ قَالَ : مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ : ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً عَلَى شيث وَخَمْسِينَ عَلَى إدْرِيسَ وَعَشْرٍ عَلَى إبْرَاهِيمَ . وَعَشْرٍ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ . وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَهَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } } . فَإِنَّ التَّزَكِّي هُوَ التَّطَهُّرُ وَالتَّبَرُّكُ بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ الْمُوجِبِ زَكَاةَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وَلِهَذَا تُفَسَّرُ الزَّكَاةُ تَارَةً بِالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَتَارَةً بِالنَّظَافَةِ وَالْإِمَاطَةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إزَالَةِ الشَّرِّ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ . وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْإِحْسَانُ . وَذَلِكَ لَا يَنْفَعُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . وَهُوَ قَوْلُ { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . فَهَذِهِ الثَّلَاثُ قَدْ يُقَالُ تُشْبِهُ الثَّلَاثَ الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وَقَدْ يُقَالُ : تُشْبِهُ الثِّنْتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } . لَكِنَّ هُنَا التَّزَكِّيَ فِي الْآيَةِ أَعَمُّ مِنْ الْإِنْفَاقِ . فَإِنَّهُ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ الَّذِي أَصْلُهُ بِتَرْكِ الشِّرْكِ . فَأَوَّلُ التَّزَكِّي التَّزَكِّي مِنْ الشِّرْكِ كَمَا قَالَ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } . وَالتَّزَكِّي مِنْ الْكَبَائِرِ الَّذِي هُوَ تَمَامُ التَّقْوَى كَمَا قَالَ { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . فَعُلِمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالتَّقْوَى . وَمِنْهُ التَّزَكِّي بِالطَّهَارَةِ وَبِالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . و { L6050 ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } قَدْ يَعْنِي بِهِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ و " الصَّلَاةَ " : الْعَمَلَ . فَقَدْ يَذْكُرُ اسْمَ رَبِّهِ مَنْ لَا يُصَلِّي . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدَّمَ التَّزَكِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إذَا أَدَّوْا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يَتَأَوَّلُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَمَامَ كُلِّ صَلَاةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى . وَلَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّحْرِ فِي قَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَقَدَّمَ التَّزَكِّي عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ وَأَنَّ الذَّبْحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ النَّحْرِ . وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ التَّزَكِّي الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . فَمَقْصُودُ الصَّوْمِ التَّقْوَى وَهُوَ مِنْ مَعْنَى التَّزَكِّي . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ } . فَالصَّدَقَةُ مِنْ تَمَامِ طهرة الصَّوْمِ . وَكِلَاهُمَا تَزَكٍّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ . فَجَمَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ التَّرْغِيبَ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَفِي قَوْلِهِ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . وَقَالَ : أَيْضًا { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى } { وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى } { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } وَأَيْضًا فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ صَاحِبَ الْمِلَّةِ وَإِمَامُ الْأُمَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَقَالَ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وَقَالَ { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } . وَمُوسَى صَاحِبُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامِ وَالشَّرِيعَةِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُ وَمِنْ الْقُرْآنِ . وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا } إلَى قَوْلِهِ { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } وَقَوْلِهِ { قَالُوا سِحْرَانِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } وَقَوْلِ الْجِنِّ : { إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } وَقَوْلِ النَّجَاشِيِّ إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ " . وَقِيلَ فِي مُوسَى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَفِي إبْرَاهِيمَ { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَأَصْلُ الْخُلَّةِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْعِبَادَةُ غَايَةُ الْحُبِّ وَالذُّلِّ . وَمُوسَى صَاحِبُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامِ . وَلِهَذَا كَانَ الْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ خُلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَتَكْلِيمِ مُوسَى . وَلَمَّا نَبَغَتْ الْبِدَعُ الشَّرِكِيَّة فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا ضَحَّى بِهِ أَمِيرُ الْعِرَاقِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ : " ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا " . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ . وَهُمْ فِي الْأَصْلِ صِنْفَانِ - أُمِّيُّونَ وَكِتَابِيُّونَ . وَالْأُمِّيُّونَ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى إبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وخزان بَيْتِهِ وَعَلَى بَقَايَا مِنْ شَعَائِرِهِ . وَالْكِتَابِيُّونَ أَصْلُهُمْ كِتَابُ مُوسَى . وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ . فَأَقَامَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ بَعْدَ اعْوِجَاجِهَا وَجَاءَ بِالْكِتَابِ الْمُهَيْمِنِ الْمُصَدِّقِ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُبَيِّنِ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَمَا حُرِّفَ وَكُتِمَ مِنْ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ .