تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَصْلٌ : فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَا بَنِي تَمِيمٍ اقْبَلُوا الْبُشْرَى قَالُوا : قَدْ بَشَّرْتنَا فَأَعْطِنَا فَأَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ : يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى ; إذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ فَقَالُوا : قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالُوا : جِئْنَاك لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ : كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَفِي لَفْظٍ مَعَهُ وَفِي لَفْظٍ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } " وَفِي لَفْظٍ : " { ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } " ثُمَّ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ : أَدْرِكْ نَاقَتَك فَذَهَبْت فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا فَوَاَللَّهِ لَوَدِدْت إنِّي تَرَكْتهَا وَلَمْ أَقُمْ . قَوْلُهُ : { كَتَبَ فِي الذِّكْرِ } يَعْنِي : اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } أَيْ : مِنْ بَعْد اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الذِّكْرِ ذِكْرًا كَمَا يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِيهِ كِتَابًا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } . وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ إخْبَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ مَوْجُودًا وَحْدَهُ ثُمَّ إنَّهُ ابْتَدَأَ إحْدَاثَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا ابْتِدَاءٌ بِجِنْسِهَا وَأَعْيَانِهَا مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ وَإِنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ حَادِثٌ لَا فِي زَمَانٍ وَجِنْسِ الْحَرَكَاتِ والمتحركات حَادِثٌ وَإِنَّ اللَّهَ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْأَزَلِ إلَى حِينِ ابْتَدَأَ الْفِعْلَ ; وَلَا كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا . ثُمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : وَكَذَلِكَ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ بَلْ وَلَا كَانَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْكَلَامُ أَمْرٌ يُوصَفُ بِهِ بِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ الْمَقْرُوءِ عَبَّرَ عَنْهُ بِكُلِّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَكُلُّ أَلْفَاظِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ : إنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ هَذَا ; بَلْ إنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ هَذَا وَلَكِنَّ مُرَادَهُ . إخْبَارُهُ عَنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ; عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } " فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَقْدِيرَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَخْلُوقِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ حِينَئِذٍ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ; عَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمِنْ هَذَا : الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَغَيْرُهُمَا عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ قَالَ : وَمَا أَكْتُبُ . قَالَ : مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } " فَهَذَا الْقَلَمُ خَلَقَهُ لِمَا أَمَرَهُ بِالتَّقْدِيرِ الْمَكْتُوبِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا خُلِقَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَخَلَقَهُ بَعْدَ الْعَرْشِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي وُجُوهٌ : ( أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْيَمَنِ : " { جِئْنَاك لِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ } " إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إلَيْهِ هَذَا الْعَالَمُ أَوْ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَابَهُمْ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَوَّلِ خَلْقِهِ هَذَا الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الْخَلْقِ مُطْلَقًا ; بَلْ قَالَ : " { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } " فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ الْعَرْشِ مَعَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَقُولُ : " وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ : الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ : الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَلْقِ الْعَرْشِ . وَأَمَّا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ فَلَمْ يُخْبِرْ بِخَلْقِهِ ; بَلْ أَخْبَرَ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَوَّلِ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ لَا بِأَوَّلِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا . وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أَجَابَهُمْ بِهَذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ هَذَا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجَابَهُمْ عَمَّا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ وَلَمْ يُجِبْهُمْ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ بَلْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا ; لَا يَدُلُّ عَلَى ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْخَلْقِ وَإِخْبَارِهِ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يَقْصِدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَرْتِيبِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْ مُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ مَبْدَأِ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا نَطَقَ فِي أَوَّلِهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ " { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } " . وَبَعْضُهُمْ يَشْرَحُهَا فِي الْبَدْءِ أَوْ فِي الِابْتِدَاءِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِيهَا الْإِخْبَارَ بِابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ غَامِرًا لِلْأَرْضِ وَكَانَتْ الرِّيحُ تَهُبُّ عَلَى الْمَاءِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ هَذَا مَاءً وَهَوَاءً وَتُرَابًا وَأَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ وَهُوَ الدُّخَانُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَهُمْ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا ابْتِدَاءَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ : " { جِئْنَا لِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ } " كَانَ مُرَادُهُمْ خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُمْ : " هَذَا الْأَمْرِ " إشَارَةٌ إلَى حَاضِرٍ مَوْجُودٍ وَالْأَمْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ بِهِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ الَّذِي كَوَّنَهُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ فَإِنَّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ : كُنْ لَيْسَ مَشْهُودًا مُشَارًا إلَيْهِ بَلْ الْمَشْهُودُ الْمُشَارُ إلَيْهِ هَذَا الْمَأْمُورُ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَلَوْ سَأَلُوهُ عَنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا لَمْ يُشِيرُوا إلَيْهِ بِهَذَا ; فَإِنَّ ذَاكَ لَمْ يَشْهَدُوهُ . فَلَا يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِهَذَا بَلْ لَمْ يَعْلَمُوهُ أَيْضًا ; فَإِنَّ ذَاكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ : " { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ } " وَقَدْ رُوِيَ : " مَعَهُ " وَرُوِيَ : " غَيْرُهُ " وَالْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ فِي الْبُخَارِيِّ وَالْمَجْلِسُ كَانَ وَاحِدًا وَسُؤَالُهُمْ وَجَوَابُهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَعِمْرَانُ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ لَمْ يَقُمْ مِنْهُ حِينَ انْقَضَى الْمَجْلِسُ ; بَلْ قَامَ لَمَّا أُخْبِرَ بِذَهَابِ رَاحِلَتِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ أَحَدُ الْأَلْفَاظِ وَالْآخَرَانِ رَوَيَا بِالْمَعْنَى . وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ لَفْظُ " الْقَبْلِ " ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " { أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ } " وَهَذَا مُوَافِقٌ وَمُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } . وَإِذَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَفْظُ [ الْقَبْلِ ] فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ وَاللَّفْظَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَبَدًا وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَرْوُونَهُ بِلَفْظِ الْقَبْلِ : " { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ } " مِثْلُ الحميدي والبغوي وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمْ . وَإِذَا كَانَ إنَّمَا قَالَ : " { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ } " لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ تَعَرُّضٌ لِابْتِدَاءِ الْحَوَادِثِ وَلَا لِأَوَّلِ مَخْلُوقٍ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : " { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ } " فَأَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظِ الْوَاوِ لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ وَإِنَّمَا جَاءَ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ ; " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " . وَبَعْضُ الرُّوَاةِ ذَكَرَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِثُمَّ وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَهَا بِالْوَاوِ . فَأَمَّا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالرُّوَاةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الْوَاوِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَلَا يُفِيدُ الْإِخْبَارَ بِتَقْدِيمِ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ مَقْصُودٌ إمَّا مِنْ تَرْتِيبِ الذِّكْرِ لِكَوْنِهِ قَدَّمَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ وَإِمَّا مِنْ الْوَاوِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ تَقْدِيمُ كَوْنِهِ عَلَى كَوْنِ الْعَرْشِ عَلَى الْمَاءِ وَتَقْدِيمُ كَوْنِ الْعَرْشِ عَلَى الْمَاءِ عَلَى كِتَابَتِهِ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَتَقْدِيمُ كِتَابَتِهِ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى تَقْدِيمِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِي هَذَا ذِكْرُ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا بَلْ وَلَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِخَلْقِ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ مَخْلُوقًا كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَكِنْ فِي جَوَابِ أَهْلِ الْيَمَنِ إنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ إخْبَارَهُ إيَّاهُمْ عَنْ بَدْءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لَا بِابْتِدَاءِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ . ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّهُ ذَكَرَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِابْتِدَاءِ خَلْقِهَا وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ : " وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " أَوْ " ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَخْبَرَ بِخَلْقِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ كَانَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَادَّةٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورٍ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ } " . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَلَقَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ وَمِنْ كِتَابَتِهِ فِي الذِّكْرِ وَهَذَا اللَّفْظُ أَوْلَى بِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِلَفْظَةِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الْوَاوَ فَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ إنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ; وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ ; فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ . الْإِخْبَارَ بِخَلْقِ الْعَرْشِ وَلَا الْمَاءِ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْصِدَ إنَّ خَلْقَ ذَلِكَ كَانَ مُقَارِنًا لِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ إلَّا مُقَارَنَةَ خَلْقِهِ لِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ - وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ - عَلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حِينَ كَانَ الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ : " { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } " فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ السَّابِقَ لِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حِينَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . ( الْوَجْهُ السَّادِسُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ : " { كَانَ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ } " ; وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ : " وَلَا شَيْءَ مَعَهُ " ; " أَوْ غَيْرُهُ " . فَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَالَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِوُجُودِهِ تَعَالَى قَبْلَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثَ فَقَوْلُهُ : " { وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ } " : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ حِينَ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ; أَوْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ كَانَ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ " مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهُوَ هَذَا الْعَالَمُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ قَبْلَ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ ; وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ وَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَيْسَ فِي هَذَا إخْبَارٌ بِأَوَّلِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا بَلْ وَلَا فِيهِ إخْبَارُهُ بِخَلْقِ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ بَلْ إنَّمَا فِيهِ إخْبَارُهُ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ كَوْنَ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَالْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ لَمْ يُبَيِّنْ الْحَدِيثَ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا ذَكَرَ مَتَى كَانَ خَلْقُ الْعَرْشِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ : { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ } " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ الْإِخْبَارَ بِوُجُودِ اللَّهِ وَحْدَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبِابْتِدَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ ; إذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . ( الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمَ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُجْزِ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ فَيَكُونُ إذَا كَانَ الرَّاجِحُ هُوَ أَحَدُهُمَا فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ . ( الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْمَطْلُوبُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِ مُحْتَمَلٍ فِي خَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا وَاحِدٌ وَلَكَانَ ذِكْرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ ; لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ; لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ . فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ ; لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ بِسِيَاقِهِ وَإِنَّمَا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ } " فَظَنُّوهُ لَفْظًا ثَابِتًا مَعَ تَجَرُّدِهِ عَنْ سَائِرِ الْكَلَامِ الصَّادِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنُّوا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ بِتَقَدُّمِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَبَنَوْا عَلَى هَذَيْنِ الظَّنَّيْنِ نِسْبَةَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عِلْمٌ بَلْ وَلَا ظَنٌّ يَسْتَنِدُ إلَى أَمَارَةٍ . وَهَبْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ مُرَادَهُ الْمَعْنَى الْآخَرُ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُوجِبُ الْجَزْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَجَاءَ بَيْنَهُمْ الشَّكُّ وَهُمْ يَنْسُبُونَ إلَى الرَّسُولِ مَا لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ قَالَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَجُوزُ . ( الْوَجْهُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَدْ زَادَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ : " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ " وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إنَّمَا زَادَهَا بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عِنْدِهِ وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ . ثُمَّ إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ الْآنَ مَوْجُودٌ بَلْ وُجُودُهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ . كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ ; وَابْنُ سَبْعِينَ ; والقونوي ; والتلمساني ; وَابْنُ الْفَارِضِ ; وَنَحْوُهُمْ . وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ شَرْعًا وَعَقْلًا أَنَّهُ بَاطِلٌ . ( الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُونَ هَذَا عُمْدَتَهُمْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ : أَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَأَنَّ جِنْسَ الْحَوَادِثِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ إذْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَنْطِقُ بِهِ ; مَعَ أَنَّهُمْ يَحْكُونَ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي كُتُبِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ ; وَخَالَفُوا بِهِ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ . وَبَعْضُهُمْ يَحْكِيهِ إجْمَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ نَقْلٌ لَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَوَافَقَ الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ ; لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا إلَّا قَوْلَيْنِ : قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إمَّا صُورَتُهُ وَإِمَّا مَادَّتُهُ سَوَاءٌ قِيلَ : هُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ ; أَوْ مَعْلُولٌ لِغَيْرِهِ . وَقَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : الجهمية ; وَالْمُعْتَزِلَةِ ; والكرامية ; الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ ثُمَّ أَحْدَثَ الْكَلَامَ وَالْفِعْلَ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كالكلابية وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ : بَلْ الْكَلَامُ قَدِيمُ الْعَيْنِ إمَّا مَعْنًى وَاحِدٌ وَإِمَّا أَحْرُفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ثُمَّ حَدَثَ مَا يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ إمَّا قَائِمًا بِذَاتِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ [ وَ ] إمَّا مُنْفَصِلًا عَنْهُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ قِيَامَ ذَلِكَ بِذَاتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاسِ إلَّا هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَكَانَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلَ الرُّسُلِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ . ثُمَّ إذَا طُولِبَ بِنَقْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ الرُّسُلِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ لِأَحَدِ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةِ وَلَا حَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا بَلْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ مَعْنَى حُدُوثِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ . فَيَبْقَى أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي هُوَ دِينُ الرُّسُلِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ; بَلْ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ . وَمَنْ كَانَ أَصْلُ دِينِهِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ دِينُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ كَانَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ فِي دِينِهِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ أَخَذُوا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ وَعُمْدَتُهُمْ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْحُجَجِ مَبْنَاهَا عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَبِهَا أَثْبَتُوا حُدُوثَ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ وَسَمَّوْا ذَلِكَ إثْبَاتًا لِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَلَزِمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ نَفْيُ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ بَلْ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَكَذَلِكَ رِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَالْتَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي نَفَوْا بِهَا مَا أَثَبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَكْذِيبًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسَلَّطَ أَهْلُ الْعُقُولِ عَلَى تِلْكَ الْحُجَجِ الَّتِي لَهُمْ فَبَيَّنُوا فَسَادَهَا . وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سُلِّطَ لِلدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ لَمَّا عَلِمُوا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ وَنَسَوْا فَسَادَهُ . ثُمَّ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ هَذَا قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ قَالُوا : إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ الْحَقَائِقَ سَوَاءٌ عَلِمَهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا وَإِنَّمَا خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا يُخَيَّلُ لَهُمْ وَمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ . فَصَارَ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ النفاة مُخْطِئِينَ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَصَارَ خَطَؤُهُمْ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَسَلُّطِ الْفَلَاسِفَةِ لَمَّا ظَنَّ أُولَئِكَ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ إلَّا قَوْلَانِ : قَوْلُ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَوْلُهُمْ . وَقَدْ رَأَوْا أَنَّ قَوْلَ أُولَئِكَ بَاطِلٌ فَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَصْلًا وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَقِّقُوا مَعْرِفَةَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الْغَلَطَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِنُصُوصِ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ بَلْ وَالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ ; فَإِنَّهُ أَوْقَعَ كَثِيرًا مِنْ النُّظَّارِ وَأَتْبَاعَهُمْ فِي الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا قَوْلَيْنِ : قَوْلَ الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْقِدَمِ وَقَوْلَ الجهمية الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَأَوْا لَوَازِمَ كُلِّ قَوْلٍ تَقْتَضِي فَسَادَهُ وَتَنَاقُضَهُ فَبَقُوا حَائِرِينَ مُرْتَابِينَ جَاهِلِينَ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ . وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي حَقِيقَةِ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ فَوَجَدُوا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ مُقَارِنًا لِلْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْفَاعِلُ عَلَى فِعْلِهِ وَأَنَّ تَقْدِيرَ مَفْعُولِ الْفَاعِلِ مَعَ تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْفَاعِلُ عَلَيْهِ ; بَلْ هُوَ مَعَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا : أَمْرٌ يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ . وَقَدْ اسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الْمَفْعُولِ مَخْلُوقًا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَلِهَذَا كَانَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِمَّا يُفْهِمُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَنَّهُمَا حَدَثَتَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونَا وَأَمَّا تَقْدِيرُ كَوْنِهِمَا لَمْ يَزَالَا مَعَهُ مَعَ كَوْنِهِمَا مَخْلُوقَيْنِ لَهُ فَهَذَا تُنْكِرُهُ الْفِطَرُ وَلَمْ يَقُلْهُ إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ الْأَفْلَاكَ مَعْلُولَةٌ لِعِلَّةِ فَاعِلَةٍ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ ; بَلْ قَوْلُهُمْ وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ قَوْلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ فَلَمْ يُخَالِفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي خَالَفَهُ هَؤُلَاءِ . وَإِنْ كَانُوا خَالَفُوهُ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى وَنَظَرُوا فِي حَقِيقَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْكَلَامِ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ فَوَجَدُوا أَنَّ الْفَاعِلَ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ أَوْجَبَ كَوْنَهُ فَاعِلًا وَرَأَوْا صَرِيحَ الْعَقْلِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ إذَا صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ شَيْءٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَصِيرَ مُمْكِنًا بَعْد أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِلَا حُدُوثٍ وَأَنَّهُ لَا سَبَبَ يُوجِبُ حُصُولَ وَقْتَ حَدَثَ وَقْتَ الْحُدُوثِ ; وَأَنَّ حُدُوثَ جِنْسِ الْوَقْتِ مُمْتَنِعٌ فَصَارُوا يَظُنُّونَ إذَا جَمَعُوا بَيْنَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُقَارِنًا غَيْرَ مُقَارَنٍ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ فَامْتَنَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْفَاعِلِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَوَجَبَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْفَاعِلِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَوَجَدُوا عُقُولَهُمْ تَقْصُرُ عَمَّا يُوجِبُ هَذَا الْإِثْبَاتَ وَمَا يُوجِبُ هَذَا النَّفْيَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فَأَوْقَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ . وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ فَلَمْ يَعْرِفُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ يُمَيِّزُوا فِي الْمَعْقُولَاتِ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْلَ يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ مُتَكَلِّمًا بِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا وَكَوْنِ الْفَاعِلِ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا وَبَيْنَ آحَادِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَيَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْعَالِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْفَاعِلِ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ مَعَ الْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَأَمَّا كَوْنُ الْفَاعِلِ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ فِعْلًا بَعْدَ فِعْلٍ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْفَاعِلِ فَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ حَيًّا وَقِيلَ : إنَّ الْحَيَاةَ مُسْتَلْزِمَةٌ الْفِعْلَ وَالْحَرَكَةَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ والدارمي وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَبِمَا شَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ : كَانَ كَوْنُهُ مُتَكَلِّمًا أَوْ فَاعِلًا مِنْ لَوَازِمِ حَيَاتِهِ وَحَيَاتُهُ لَازِمَةٌ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا فَعَّالًا ; مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحَيَّ يَتَكَلَّمُ وَيَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ وُجُودَ كَلَامٍ بَعْدَ كَلَامٍ وَفِعْلٍ بَعْدَ فِعْلٍ فَالْفَاعِلُ يَتَقَدَّمُ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ : إنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خُلِقَ [ لَهُ قُدْرَةٌ ] وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ وَلَكِنْ نَقُولُ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا كَيْفَ . فَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ قَدِيمٌ مَعَهُ . لَا بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ قُدِّرَ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا فَعَّالًا . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْخَلْقَ صِفَةُ كَمَالٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ خالقيته دَائِمَةً وَكُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ ؟ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْكَمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَطِّلًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ يَصِيرَ قَادِرًا وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بِلَا سَبَبٍ . وَأَمَّا جَعْلُ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْطِيلٌ لِخَلْقِهِ وَفِعْلِهِ فَإِنَّ كَوْنَ الْفَاعِلِ مُقَارِنًا لِمَفْعُولِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . فَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَطِّلُونَ لِلْفَاعِلِيَّةِ وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَلِهَذَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ . ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ وَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ ثُمَّ خَصَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ وَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ فِعْلَهُ وَالتَّعْلِيمُ يَتَضَمَّنُ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِتَكْلِيمِهِ وَتَكْلِيمُهُ بِالْإِيحَاءِ ; وَبِالتَّكَلُّمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ قَالَ تَعَالَى : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } . وَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يُعَلِّمْ فَإِنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَالتَّعْلِيمِ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ فَإِنَّهُ ع