تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ كَلَامٍ لَهُ : وَنَحْنُ نَذْكُرُ " قَاعِدَةً جَامِعَةً " فِي هَذَا الْبَابِ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ فَنَقُولُ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتُ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ ؟ وَإِلَّا فَيَبْقَى فِي كَذِبٍ وَجَهْلٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَجَهْلٍ وَظُلْمٍ فِي الْكُلِّيَّاتِ فَيَتَوَلَّدُ فَسَادٌ عَظِيمٌ . فَنَقُولُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ وَتَأْثِيمِهِمْ وَعَدَمِ تَأْثِيمِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ أُصُولًا جَامِعَةً نَافِعَةً : ( الْأَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَعْرِفَ بِاجْتِهَادِهِ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِزَاعٌ ؟ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ فَاجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الْحَقِّ ; بَلْ قَالَ : مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ : هَلْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ أَمْ لَا ؟ هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كُلُّ قَوْلٍ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلًا يُعْرَفُ بِهِ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فروعية فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَا لِعَجْزِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ : أَمَّا الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ فَعَلَيْهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ تُعْرَفُ بِهَا فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَيَأْثَمُ . وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَلَهُمْ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَالْعِلْمِيَّةِ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ آثِمٌ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَفَرْعِيَّةٍ وَكُلُّ مَنْ سِوَى الْمُصِيبِ فَهُوَ آثِمٌ ; لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ وَالْخَطَأُ وَالْإِثْمُ عِنْدَهُمْ مُتَلَازِمَانِ وَهَذَا قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيَّ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ . الثَّانِي : أَنَّ الْمَسَائِلَ الْعَمَلِيَّةَ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَهُ آثِمٌ مُخْطِئٌ كَالْعِلْمِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ فِي الْبَاطِنِ وَحُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْأَوَّلِينَ فِي أَنَّ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَانِ وَإِنَّ كُلَّ مُخْطِئٍ آثِمٌ ; لَكِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فَقَالُوا : لَيْسَ فِيهَا قَاطِعٌ وَالظَّنُّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَيْلِ النُّفُوسِ إلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ فَجَعَلُوا الِاعْتِقَادَاتِ الظَّنِّيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالْإِثْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمَارَةٌ أَرْجَحُ مِنْ أَمَارَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ أَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالجبائي وَابْنِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَشْهُرُهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الباقلاني وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ; وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا كَثِيرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمُخَالِفُونَ لَهُمْ كَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : هَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَهُوَ مُصِيبٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ; إذْ لَا يَتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا إلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُمُورِ وَذَلِكَ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ لَا فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ أَمْثَالِهِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُخْطِئًا وَهُوَ الْمُخْطِئُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَهُوَ آثِمٌ عِنْدَهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَقَدْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ لَا يُعَاقِبُهُ ; فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا ; بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ . وَهَذَا قَوْلُ الجهمية وَالْأَشْعَرِيَّةِ ; وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ; وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ : قَدْ عُلِمَ بِالسَّمْعِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَهُوَ فِي النَّارِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُعَذِّبُهُ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُخْتَلِفُونَ : فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الفروعيات فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ : لَا عَذَابَ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : لِأَنَّ الشَّارِعَ عَفَا عَنْ الْخَطَأِ فِيهَا وَعَلِمَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ إثْمٌ عَلَى الْمُخْطِئِ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُمْتَنِعٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ الجهمية وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَأَمَّا الْقَطْعِيَّاتُ فَأَكْثَرُهُمْ يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ فِيهَا وَيَقُولُ : إنَّ السَّمْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَثِّمُهُ . وَالْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ هَذَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ وَأَنْكَرَ جُمْهُورُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا الْقَوْلَ وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ : هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ; وَالثَّوْرِيِّ وداود بْنِ عَلِيٍّ ; وَغَيْرِهِمْ لَا يؤثمون مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَلَا فِي الفروعية كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ ; وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَابِيَّة وَيُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ . وَالْكَافِرُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَقَالُوا : هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ : أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ وَلَا يُفَسِّقُونَ وَلَا يؤثمون أَحَدًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْطِئِينَ لَا فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ قَالُوا : وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والجهمية وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ وَانْتَقَلَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى أَقْوَامٍ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا غَوْرَهُ . قَالُوا : وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ كَمَا أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ بَلْ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا ; فَإِنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَ مَا جَعَلُوهُ مَسَائِلَ أُصُولٍ وَمَسَائِلَ فُرُوعٍ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ صَحِيحٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ أَوْ أَرْبَعَةً كُلُّهَا بَاطِلَةٌ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَسَائِلُ الْأُصُولِ هِيَ الْعِلْمِيَّةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَطْ ; وَمَسَائِلُ الْفُرُوعِ هِيَ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْعَمَلُ . قَالُوا : وَهَذَا فَرْقٌ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الْعَمَلِيَّةَ فِيهَا مَا يُكَفِّرُ جَاحِدَهُ مِثْلَ : وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ; وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ . وَفِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ مَا لَا يَأْثَمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِيهِ كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ : هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ : هَلْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَرَادَ بِمَعْنَاهُ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ : هَلْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي بَعْضِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : هَلْ أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَا وَكَذَا ؟ وَكَتَنَازُعِ النَّاسِ فِي دَقِيقِ الْكَلَامِ كَمَسْأَلَةِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ ; وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْفِيرٌ وَلَا تَفْسِيقٌ . قَالُوا : وَالْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ فِيهَا عَمَلٌ وَعِلْمٌ فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ مَغْفُورًا فِيهَا فَاَلَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِيهَا مَغْفُورًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ ; وَالْفَرْعِيَّةُ مَا لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ . قَالَ أُولَئِكَ : وَهَذَا الْفَرْقُ خَطَأٌ أَيْضًا ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهَا وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَفِيهَا مَا هُوَ قَطْعِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ كَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ ثُمَّ لَوْ أَنْكَرَهَا الرَّجُلُ بِجَهْلِ وَتَأْوِيلٍ لَمْ يُكَفَّرْ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَمَا أَنَّ جَمَاعَةً اسْتَحَلُّوا شُرْبَ الْخَمْرِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ مِنْهُمْ قدامة وَرَأَوْا أَنَّهَا حَلَالٌ لَهُمْ ; وَلَمْ تُكَفِّرْهُمْ الصَّحَابَةُ حَتَّى بَيَّنُوا لَهُمْ خَطَأَهُمْ فَتَابُوا وَرَجَعُوا . وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةٌ أَكَلُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ; وَلَمْ يؤثمهم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَنْ تَكْفِيرِهِمْ وَخَطَؤُهُمْ قَطْعِيٌّ . وَكَذَلِكَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ قَتَلَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ وَكَانَ خَطَؤُهُ قَطْعِيًّا وَكَذَلِكَ الَّذِينَ وَجَدُوا رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ فَقَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ كَانَ خَطَؤُهُمْ قَطْعِيًّا . وَكَذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَتَلَ بَنِي جذيمة وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُخْطِئًا قَطْعًا . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ تَيَمَّمُوا إلَى الْآبَاطِ وَعَمَّارٌ الَّذِي تَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ لِلْجَنَابَةِ كَمَا تَمَعَّكَ الدَّابَّةُ بَلْ وَاَلَّذِينَ أَصَابَتْهُمْ جَنَابَةٌ فَلَمْ يَتَيَمَّمُوا وَلَمْ يُصَلُّوا كَانُوا مُخْطِئِينَ قَطْعًا . وَفِي زَمَانِنَا لَوْ أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي بَعْضِ الْأَطْرَافِ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِوُجُوبِ الْحَجِّ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَمْ يُحَدُّوا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ نَشَئُوا بِمَكَانٍ جُهِلَ . وَقَدْ زَنَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ امْرَأَةٌ فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ قَالَ عُثْمَانُ : إنَّهَا لَتَسْتَهِلُّ بِهِ اسْتِهْلَالَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلصَّحَابَةِ أَنَّهَا تَعْرِفُ التَّحْرِيمَ لَمْ يَحُدُّوهَا وَاسْتِحْلَالُ الزِّنَا خَطَأٌ قَطْعًا . وَالرَّجُلُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ الْفَجْرِ فَأَكَلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَ الْفَجْرِ ; وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَفِي الْقَضَاءِ نِزَاعٌ وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَقَدَ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " قَدْ فَعَلْت " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْخَطَأِ الْقَطْعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ . وَالظَّنِّيُّ مَا لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ إلَّا إذَا كَانَ أَخْطَأَ قَطْعًا قَالُوا : فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخْطِئَ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ يَأْثَمُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ بِحَسَبِ حَالِ الْمُعْتَقِدِينَ لَيْسَ هُوَ وَصْفًا لِلْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْطَعُ بِأَشْيَاءَ عَلِمَهَا بِالضَّرُورَةِ ; أَوْ بِالنَّقْلِ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ عِنْدَهُ وَغَيْرُهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا . وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ذَكِيًّا قَوِيَّ الذِّهْنِ سَرِيعَ الْإِدْرَاكِ فَيَعْرِفُ مِنْ الْحَقِّ وَيَقْطَعُ بِهِ مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ لَا عِلْمًا وَلَا ظَنًّا . فَالْقَطْعُ وَالظَّنُّ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبِحَسَبِ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّاسِ يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً لَيْسَ هُوَ صِفَةً مُلَازِمَةً لِلْقَوْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ حَتَّى يُقَالَ : كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ قَدْ خَالَفَ الْقَطْعِيَّ بَلْ هُوَ صِفَةٌ لِحَالِ النَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ الْمُعْتَقِدِ وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ فَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِفَرْقِ ثَالِثٍ وَقَالَ : الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ هِيَ الْمَعْلُومَةُ بِالْعَقْلِ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ اسْتَقَلَّ الْعَقْلُ بِدَرْكِهَا فَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي يَكْفُرُ أَوْ يَفْسُقُ مُخَالِفُهَا . وَالْمَسَائِلُ الفروعية هِيَ الْمَعْلُومَةُ بِالشَّرْعِ قَالُوا : فَالْأَوَّلُ كَمَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ ; وَالثَّانِي كَمَسَائِلِ الشَّفَاعَةِ وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ بِالضِّدِّ أَوْلَى فَإِنَّ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا الْعَقْلُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ كُفْرًا فَهَؤُلَاءِ السَّالِكُونَ هَذِهِ الطُّرُقَ الْبَاطِلَةَ فِي الْعُقَلِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الشَّرْعِ هُمْ الْكُفَّارُ لَا مَنْ خَالَفَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ فِيهَا كُفْرًا فَلَا يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَافِرًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَلَكِنْ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يَبْتَدِعُونَ أَقْوَالًا يَجْعَلُونَهَا وَاجِبَةً فِي الدِّينِ بَلْ يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ كَفِعْلِ الْخَوَارِجِ والجهمية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَبْتَدِعُونَ قَوْلًا وَلَا يُكَفِّرُونَ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مُسْتَحِلًّا لِدِمَائِهِمْ كَمَا لَمْ تُكَفِّرْ الصَّحَابَةُ الْخَوَارِجَ مَعَ تَكْفِيرِهِمْ لِعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَمَنْ وَالَاهُمَا وَاسْتِحْلَالِهِمْ لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ . وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالتَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ وَالتَّأْثِيمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّكْفِيرِ وَنَفْيِهِ ; لِكَوْنِهِمْ بَنَوْا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كُلَّ مُسْتَدِلٍّ قَادِرًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَيُعَذَّبُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ ; وَقَوْلُ الجهمية الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ اللَّهُ يُعَذِّبُ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ فَيُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ ذَنْبًا قَطُّ وَيُنَعِّمُ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَنْبًا قَطُّ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْزِمُ بِعَذَابِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَيَقُولُ : لَا أَدْرِي مَا يَقَعُ ؟ وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُغْفَرَ لِأَفْسَقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا وَيُعَذِّبُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا بَلْ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ . وَأَصْلُ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ إلَى آخِرِ مَا نَقَلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ قَالَ : وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ إلَّا مَنْ تَرَكَ مَأْمُورًا أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَقَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الصَّوَابَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ . فَالصَّوَابُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الجهمية الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ وَالْجُمْهُورَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ وَاجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ بَلْ اسْتِطَاعَةُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ . وَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْقُدْرَةِ وَلَمْ يَخُصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ حَتَّى آمَنُوا وَلَا خَصَّ الْمُطِيعِينَ بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْعُصَاةِ حَتَّى أَطَاعُوا . وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْعَقْلَ الصَّرِيحَ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ كُلَّ مُسْتَدِلٍّ فَمَعَهُ قُدْرَةٌ تَامَّةٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ فَكُلُّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ بَعْضُهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ جِهَتِهَا وَبَعْضُهُمْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَغْلَطُ فَيَظُنُّ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ أَنَّهَا جِهَتُهَا وَلَا يَكُونُ مُصِيبًا فِي ذَلِكَ . لَكِنْ هُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي صِلَاتِهِ إلَيْهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا فَعَجْزُهُمْ عَنْ الْعِلْمِ بِهَا كَعَجْزِهِ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا كَالْمُقَيَّدِ وَالْخَائِفِ ; وَالْمَحْبُوسِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ عَصَاهُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذَا وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ بِخِلَافِ الجهمية وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا : بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ الْعَقْلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا فِي نَفْيِ الْعَذَابِ مُطْلَقًا إلَّا بَعْدَ إرْسَالِ الرُّسُلِ ; وَهُمْ يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ قَبْلَ إرْسَالِ الرُّسُلِ . فَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : يُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِ رَسُولًا لِأَنَّهُ فَعَلَ الْقَبَائِحَ الْعَقْلِيَّةَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ قَبِيحًا قَطُّ كَالْأَطْفَالِ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فَوْجٌ سَأَلَهُمْ الْخَزَنَةُ : هَلْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ؟ فَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ قَدْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ فَلَمْ يَبْقَ فَوْجٌ يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا وَقَدْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ . وَقَالَ : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أَيْ : هَذَا بِهَذَا السَّبَبِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ كَانَ غَافِلًا مَا لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ تَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا كَقَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَوْلِهِ : { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا } وَقَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا } وَأَمَرَ بِتَقْوَاهُ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَدْ دَعَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِقَوْلِهِمْ : { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فَقَالَ : " قَدْ فَعَلْت " . فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ خِلَافًا للجهمية الْمُجْبِرَةِ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ الْمُخْطِئَ وَالنَّاسِيَ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ . فَالْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ إمَامٍ وَحَاكِمٍ وَعَالِمٍ وَنَاظِرٍ وَمُفْتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ : إذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ فَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَلَّفَهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوَابِ إذَا اتَّقَاهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ أَلْبَتَّةَ خِلَافًا للجهمية الْمُجْبِرَةِ وَهُوَ مُصِيبٌ ; بِمَعْنَى : أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَكِنْ قَدْ يَعْلَمُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ : كُلُّ مَنْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ عَلِمَ الْحَقَّ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَلْ كُلُّ مَنْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ . وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ : مَنْ بَلَغَهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَعَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِهِ وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ; وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ كَمَا فَعَلَ النَّجَاشِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ تُمْكِنْهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا الْتِزَامُ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ; لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَمْنُوعًا مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ : فَهَذَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . كَمَا كَانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكَمَا كَانَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَلْ وَكَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمْ كُلَّ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } . وَكَذَلِكَ النَّجَاشِيُّ هُوَ وَإِنْ كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى فِلْم يُطِعْهُ قَوْمُهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ إنَّمَا دَخَلَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ ; وَلِهَذَا { لَمَّا مَاتَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ خَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّهُمْ صُفُوفًا وَصَلَّى عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِهِ يَوْمَ مَاتَ وَقَالَ : إنَّ أَخًا لَكُمْ صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ مَاتَ } وَكَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِيهَا لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يُجَاهِدْ وَلَا حَجَّ الْبَيْتَ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَا يُؤَدِّ الزَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَظْهَرُ عِنْدَ قَوْمِهِ فَيُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ مُخَالَفَتَهُمْ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ . وَهَذَا مِثْلُ الْحُكْمِ فِي الزِّنَا لِلْمُحْصَنِ بِحَدِّ الرَّجْمِ وَفِي الدِّيَاتِ بِالْعَدْلِ ; وَالتَّسْوِيَةِ فِي الدِّمَاءِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَارِ قَاضِيًا بَلْ وَإِمَامًا وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنْ الْعَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بَلْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُودِيَ وَأُوذِيَ عَلَى بَعْضِ مَا أَقَامَهُ مِنْ الْعَدْلِ وَقِيلَ : إنَّهُ سُمَّ عَلَى ذَلِكَ . فَالنَّجَاشِيُّ وَأَمْثَالُهُ سُعَدَاءُ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْتَزِمُوا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْتِزَامِهِ بَلْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ الْحُكْمُ بِهَا . وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ ; كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وقتادة . وَهَذَا مُرَادُ الصَّحَابَةِ وَلَكِنْ هُوَ الْمُطَاعُ فَإِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَفْظُ الْجَمْعِ لَمْ يُرَدْ بِهَا وَاحِدٌ . وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَثَلَاثِينَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَثَمَانِيَةٍ مِنْ الرُّومِ وَكَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَآمَنُوا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلَ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا إلَّا هَؤُلَاءِ صَارُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُقَالُ فِيهِمْ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهِجْرَتِهِمْ وَدُخُولِهِمْ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ يُقَالُ : إنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقَدْ آمَنُوا بِالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَقْتُولِ خَطَأً : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } وَقَوْلُهُ : { عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَهُوَ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَكِنْ هُوَ كَانَ قَدْ آمَنَ وَمَا أَمْكَنَهُ الْهِجْرَةُ وَإِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَالْتِزَامُ شَرَائِعِهِ فَسَمَّاهُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ فَعَلَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَخِفُّونَ بِإِيمَانِهِمْ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ الْهِجْرَةِ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } فَعَذَرَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَضْعَفَ الْعَاجِزَ عَنْ الْهِجْرَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } فَأُولَئِكَ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ إقَامَةِ دِينِهِمْ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ ؟ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ كَانَ مُشْرِكًا وَآمَنَ : فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآمَنَ ؟ وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قِيلَ : هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ لِبَاسُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي صَفِّهِمْ فَيُعْذَرُ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الدِّيَةُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ . كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَكِنَّ هَذَا قَدْ أَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ . وَقِيلَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَلَا يُعْطَى أَهْلُ الْحَرْبِ دِيَتُهُ بَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ . وَسَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَقُتِلَ خَطَأً أَوْ ظُنَّ أَنَّهُ كَافِرٌ وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ جريج وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ زَيْدٍ يَعْنِي : قَوْلَهُ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إنَّهَا فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ . فَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ أَرَادَ الْعُمُومَ فَهُوَ كَالثَّانِي . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَوْلُ مَنْ أَدْخَلَ فِيهَا ابْنَ سَلَامٍ وَأَمْثَالَهُ ضَعِيفٌ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . أَمَّا أَوَّلًا : فَإِنَّ ابْنَ سَلَامٍ أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَقَالَ : فَلَمَّا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْت أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ . وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إنَّمَا نَزَلَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَثَانِيًا : أَنَّ ابْنَ سَلَامٍ وَأَمْثَالَهُ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَذَلِكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَلَا يُقَالُ فِيهِ : إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أُجُورٌ مِثْلُ أُجُورِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ مُلْتَزِمُونَ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَأَجْرُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ كَانَ ظَاهِرًا مَعْرُوفًا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَشُكُّ فِيهِمْ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ بِهِمْ ؟ وَمَا هَذَا إلَّا كَمَا يُقَالُ : الْإِسْلَامُ دَخَلَ فِيهِ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ كَانَ كِتَابِيًّا وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَنَّهُ دِينٌ لَمْ يُعْرَفْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فِيهِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ إمَّا مُشْرِكًا وَإِمَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إمَّا كِتَابِيًّا وَإِمَّا أُمِّيًّا . فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذَا ؟ بِخِلَافِ أَمْرِ النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ مِمَّنْ كَانُوا مُتَظَاهِرِينَ بِكَثِيرٍ مِمَّا عَلَيْهِ