مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
ثُمَّ النَّقْصُ عَنْ الْوَاجِبِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَنَقْصِ أَرْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ . وَنَقْصٌ لَا يُبْطِلُهَا كَنَقْصِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَرْكَانِ ; وَنَقْصِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهَا سَهْوًا عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَحْمَد وَنَقْصُ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يُسَمِّيه أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا مُسِيئًا وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَحْوِهَا . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي " مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَخِلَافُ الْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِدِينِ اللَّهِ الَّذِي أَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . وَهُوَ اسْمٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَلِلْبِرِّ وَلِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ التَّامُّ ; وَكَمَالُهُ نَوْعَانِ : كَمَالُ الْمُقَرَّبِينَ وَهُوَ الْكَمَالُ بِالْمُسْتَحَبِّ وَكَمَالُ الْمُقْتَصِدِينَ وَهُوَ الْكَمَالُ بِالْوَاجِبِ فَقَطْ . وَإِذَا قُلْنَا فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } و { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } إذَا قَالَ الْقَائِلُ فِي مِثْلِ هَذَا : لَيْسَ بِمُؤْمِنِ كَامِلِ الْإِيمَانِ ; أَوْ نَفَى عَنْهُ كَمَالَ الْإِيمَانِ لَا أَصْلَهُ ; فَالْمُرَادُ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لَيْسَ بِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ كَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ أَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ غَيْرَ الْوَطْءِ لَيْسَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِنَا : غُسْلٌ كَامِلٌ وَوُضُوءٌ كَامِلٌ وَأَنَّ الْمُجْزِئَ مِنْهُ لَيْسَ بِكَامِلٍ ذَاكَ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ . وَكَذَا الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ إيمَانِهِ نَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا حَابِطًا كَمَا فِي الْحَجِّ وَلَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَلَا أَنْ يُقَالَ : وَلَوْ أَدَّى الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ كَامِلًا فَإِنَّ الْكَمَالَ الْمَنْفِيَّ هُنَا الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ . فَهَذَا فُرْقَانٌ يُزِيلُ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَيُقَرِّرُ النُّصُوصَ كَمَا جَاءَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَلَا أَنْ يُقَالَ : صَارَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ كَافِرًا كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ الْمُضْمَرَ يَنْصَرِفُ إطْلَاقُهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ بِلَا عِقَابٍ وَلَهُمْ الْمُوَالَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ دَرَجَاتٌ فِي ذَلِكَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ فَإِذَا غَشَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ حَقِيقَةً ; لِنَقْصِ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ الْمُطْلَقَ بِلَا عِقَابٍ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا بَلْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مُشَارَكَتَهُمْ فِي بَعْضِ الثَّوَابِ وَمَعَهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ كَمَا يَقُولُ مَنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا لِيَعْمَلُوا عَمَلًا ; فَعَمِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْوَقْتِ فَعِنْدَ التَّوْفِيَةِ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا لَيْسَ مِنَّا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ الْكَامِلَ وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ . وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْت ارْتِبَاطَهَا بِقَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ فِي أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ أَوْ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ وَجْهٍ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ; خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ; وَقَدْ وَافَقَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ : مُتَكَلِّمِيهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ; مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ; فِي مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَا يُجْزِئُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُجْزِئُ كَقَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لَكِنْ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهَا عَقْلِيَّةً وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ كَابْنِ الباقلاني وَابْنِ الْخَطِيبِ . فَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : فِي الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ ; وَفِي الْإِجْزَاءِ الشَّرْعِيِّ . وَالنَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَمْتَنِعُ عَقْلًا وَيَبْطُلُ شَرْعًا . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَصْحَابِنَا وَفُقَهَائِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ عَقْلًا لَكِنَّ الْمَانِعَ سَمْعِيٌّ . وَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ أَيْضًا مَنْ لَا يَرَى الْإِجْزَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُوَ أَشْبَهُ عِنْدِي بِقَوْلِ أَحْمَد ; فَإِنَّ أُصُولَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ أُصُولَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ عَقْلًا وَسَمْعًا كَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ عَقْلًا لَكِنْ يَقُولُ : وَرَدَ سَمْعًا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الباقلاني وَأَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ الْخَطِيبِ زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ كَوْنَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَكِنْ لَمَّا دَلَّ السَّمْعُ : إمَّا الْإِجْمَاعُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَالُوا : حَصَلَ الْإِجْزَاءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ فَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى دَلِيلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مَحْبُوبًا مَكْرُوهًا ; مَرْضِيًّا مَسْخُوطًا مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ ; مُقْتَضِيًا لِلْحَمْدِ وَالثَّوَابِ وَالذَّمِّ وَالْعِقَابِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ كَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ ; وَالْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَالْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ; وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ كَلَامٌ أَيْضًا . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا إضَافَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْغَيْرِ مِثْلَ كَوْنِ الْفِعْلِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمَحْبُوبًا وَمَكْرُوهًا وَالنَّافِعُ هُوَ الْجَالِبُ لِلَذَّةِ . وَالضَّارُّ هُوَ الْجَالِبُ لِلْأَلَمِ وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ فَرَحٌ وَلَذَّةٌ لِلْمُحِبِّ مَثَلًا ; وَالْمَكْرُوهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ أَلَمٌ لِلْكَارِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ مَعْنَاهُ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَعُودَانِ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمَكْرُوهِ ; فَهَذِهِ صِفَةٌ فِي الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَاعِلِ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذِهِ صِفَةٌ فِي الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْآمِرِ النَّاهِي . وَلِهَذَا قُلْت غَيْرَ مَرَّةٍ : إنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ يَحْصُلُ مِنْ نَفْسِهِ تَارَةً وَمِنْ الْآمِرِ تَارَةً وَمِنْ مَجْمُوعِهِمَا تَارَةً . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يُثْبِتُونَ إلَّا الْأَوَّلَ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ لِلْفِعْلِ صِفَةً إلَّا إضَافَةً لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ لَا يُثْبِتُونَ إلَّا الثَّانِيَ . وَالصَّوَابُ إثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ . وَقَدْرٌ زَائِدٌ يَحْصُلُ لِلْفِعْلِ مِنْ جِنْسِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ غَيْرَ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَيَحْصُلُ لِلْفِعْلِ بَعْدَ الْحُكْمِ فَالْخِطَابُ مُظْهِرٌ تَارَةً وَمُؤَثِّرٌ تَارَةً وَجَامِعٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَارَةً . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْقِلُ وَنَجِدُ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ مِنْ الشَّخْصِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً وَمَضَرَّةً مَعًا وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ عَدُوَّانِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُسَرُّ مِنْ حَيْثُ عُدِمَ عَدْوٌ وَيُسَاءُ مِنْ حَيْثُ غَلَبَ عَدُوٌّ . وَيَكُونُ لَهُ صَدِيقَانِ يَعْزِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُسَاءُ مِنْ حَيْثُ انْعِزَالِ الصَّدِيقِ ; وَيُسَرُّ مِنْ حَيْثُ تَوَلِّي صَدِيقٍ . وَأَكْثَرُ أُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ هَذَا ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَحْضَةَ نَادِرَةٌ فَأَكْثَرُ الْحَوَادِثِ فِيهَا مَا يَسُوءُ وَيَسُرُّ فَيَشْتَمِلُ الْفِعْلُ عَلَى مَا يُنْفَعُ وَيُحَبُّ وَيُرَادُ وَيُطْلَبُ . وَعَلَى مَا يُضَرُّ وَيُبْغَضُ وَيُكْرَهُ وَيُدْفَعُ . وَكَذَلِكَ الْآمِرُ يَأْمُرُ بِتَحْصِيلِ النَّافِعِ وَيَنْهَى عَنْ تَحْصِيلِ الضَّارِّ فَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْغَضَبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَضَرَّةِ . فَإِذَا قَالُوا : الْمُمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُ : صَلِّ هُنَا وَلَا تُصَلِّ هُنَا ; فَإِنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَقَدْ يُقَالُ لَهُمْ : الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَبَرِ فَإِذَا قُلْت : صَلَّى زَيْدٌ هُنَا لَمْ يُصَلِّ هُنَا امْتَنَعَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا إمَّا أَنْ تَكُونَ وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ وَكَوْنُهَا هُوَ عَيْنُهَا وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ وَتَعَلُّقٌ فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالطَّلَبِ وَالدَّفْعِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ فَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ ; فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مُرَادًا وَيَكُونُ عَدَمُهُ مُرَادًا أَيْضًا . إذَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُرِيدِ وَيَكُونُ أَيْضًا وُجُودُهُ أَوْ عَدَمُهُ مُرَادًا مَكْرُوهًا بِحَيْثُ يَلْتَذُّ الْعَبْدُ وَيَتَأَلَّمُ بِوُجُودِهِ وَبِعَدَمِهِ كَمَا قِيلَ : الشَّيْبُ كُرْهٌ وَكُرْهٌ أَنْ نُفَارِقَهُ فَاعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلَى الْبَغْضَاءِ مَحْبُوبُ فَهُوَ يَكْرَهُ الشَّيْبَ وَيَبْغُضُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زَوَالِ الشَّبَابِ النَّافِعِ وَوُجُودِ الْمَشِيبِ الضَّارِّ وَهُوَ يُحِبُّهُ أَيْضًا وَيَكْرَهُ عَدَمَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُودِ الْحَيَاةِ وَفِي عَدَمِهِ مِنْ الْفَنَاءِ .