تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ : فَصْلٌ قَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ كُلَّهَا عَدْلٌ وَالسَّيِّئَاتِ كُلَّهَا ظُلْمٌ وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ ; لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْقِسْطَ وَالظُّلْمَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالتَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْعَدْلِ وَالشِّرْكُ رَأْسُ الظُّلْمِ وَنَوْعٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ; إمَّا مَعَ حَقِّ اللَّهِ كَقَتْلِ النَّفْسِ أَوْ مُفْرَدًا كَالدَّيْنِ الَّذِي ثَبَتَ بِرِضَا صَاحِبِهِ . ثُمَّ إنَّ الظُّلْمَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَحْصُلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ كَقَتْلِ نَفْسِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ وَانْتِهَاكِ عِرْضِهِ وَنَوْعٌ يَكُونُ بِرِضَا صَاحِبِهِ وَهُوَ ظُلْمٌ كَمُعَامَلَةِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ظُلْمٌ ; وَلَوْ رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ لَمْ يُبَحْ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ يَخْرُجُ عَنْ الظُّلْمِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَرِهَهُ بَاذِلُهُ يَكُونُ ظُلْمًا بَلْ الْقِسْمَةُ رُبَاعِيَّةٌ : أَحَدُهَا : مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَكَرِهَهُ الْمَظْلُومُ . الثَّانِي : مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْهُ الْمَظْلُومُ كَالزِّنَا وَالْمَيْسِرِ . وَالثَّالِثُ : مَا كَرِهَهُ صَاحِبُهُ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ فِيهِ فَهَذَا لَيْسَ بِظُلْمِ . وَالرَّابِعُ : مَا لَمْ يَكْرَهْهُ صَاحِبُهُ وَلَا الشَّارِعُ ; وَإِنَّمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ مَا يَرْضَى بِهِ صَاحِبُهُ إذَا كَانَ ظُلْمًا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ جَاهِلٌ بِمَصْلَحَتِهِ فَقَدْ يَرْضَى مَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرًا وَيَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ; وَلِهَذَا إذَا انْكَشَفَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ لَمْ يَرْضَ ; وَلِهَذَا قَالَ طاوس مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ إلَّا تَفَرَّقَا عَنْ تَقَالٍ فَالزَّانِي بِامْرَأَةٍ أَوْ غُلَامٍ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهَذَا ظُلْمٌ وَفَاحِشَةٌ وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهَذَا فَاحِشَةٌ وَفِيهِ ظُلْمٌ أَيْضًا لِلْآخَرِ ; لِأَنَّهُ بِمُوَافَقَتِهِ أَعَانَ الْآخَرَ عَلَى مَضَرَّةِ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي دَعَا الْآخَرَ إلَى الْفَاحِشَةِ فَإِنَّهُ قَدْ سَعَى فِي ظُلْمِهِ وَإِضْرَارِهِ بَلْ لَوْ أَمَرَهُ بِالْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا لَكَانَ ظَالِمًا لَهُ ; وَلِهَذَا يَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِي يُضِلُّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَكَيْفَ إذَا سَعَى فِي أَنْ يَنَالَ غَرَضَهُ مِنْهُ مَعَ إضْرَارِهِ . وَلِهَذَا يَكُونُ دُعَاءُ الْغُلَامِ إلَى الْفُجُورِ بِهِ أَعْظَمَ ظُلْمًا مِنْ دُعَاءِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا هَوًى فَيَكُونُ مِنْ بَاب الْمُعَاوَضَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَالَ غَرَضَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ غَرَضِ الْآخَرِ فَيَسْقُطُ هَذَا بِهَذَا وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِمَا ; فَلِهَذَا : لَيْسَ فِي الزِّنَا الْمَحْضِ ظُلْمُ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُفْسِدَ فِرَاشًا أَوْ نَسَبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا المتلوط فَإِنَّ الْغُلَامَ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ إلَّا بِرَغْبَةِ أَوْ بِرَهْبَةِ وَالرَّغْبَةُ وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِ الْحَاجَاتِ الْمُبَاحَةِ فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْفُجُورَ قَدْ يَبْذُلُهُ لَهُ فَهَذَا إذَا رَضِيَ الْآنَ بِهِ مِنْ جِنْسِ ظُلْمِ الْمُؤْتِي لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَالِ ; لَكِنَّ هَذَا الظُّلْمَ فِي نَفْسِهِ وَحُرْمَتِهِ فَهُوَ أَشَدُّ وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا ظُلْمٌ لَهُ ; وَإِنْ كَانَتْ بِرِضَاهُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ ظَلَمَ الْآخَرَ أَيْضًا بِمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ حَيْثُ وَافَقَهُ عَلَى الذَّنْبِ ; لَكِنَّ أَحَدَ نَوْعَيْ الظُّلْمِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْآخَرِ وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ فَأَكْثَرُ الذُّنُوبِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ وَجَمِيعُهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمِ النَّفْسِ .