تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّتَيْنِ لَا تَكُونَانِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِحُكْمِ وَاحِدٍ حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْبَدِيهِيَّةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ ; فَإِنَّ الِاسْتِقْلَالَ يُنَافِي الِاشْتِرَاكَ ; إذْ الْمُسْتَقِلُّ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْمُجْتَمِعَانِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُسْتَقِلًّا بِهِ . وَأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِعِلَّتَيْنِ - سَوَاءٌ قِيلَ : هُوَ أَحْكَامٌ ; أَوْ حُكْمٌ وَاحِدٌ مُؤَكَّدٌ - لَا تَسْتَقِلُّ بِهِ إحْدَاهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ عِلَّتِهِ ; لَا عِلَّةٌ لَهُ . وَهَكَذَا يُقَالُ فِي اجْتِمَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ : أَنَّهَا تُوجِبُ عِلْمًا مُؤَكَّدًا ; أَوْ عُلُومًا مُتَمَاثِلَةً . وَمِنْ هُنَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْإِيضَاحِ وَالْقُوَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَهُوَ : أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْوَاحِدَ - سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا بِإِرَادَةِ وَاخْتِيَارٍ أَوْ بِطَبْعِ ; أَوْ كَانَ دَاعِيًا إلَى الْفِعْلِ وَبَاعِثًا عَلَيْهِ - مَتَى كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فِعْلِهِ وَتَأْثِيرِهِ كَانَ مُعَاوِنًا وَمُظَاهِرًا لَهُ وَمَنْعُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ مُنْفَرِدًا بِهِ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَاجَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ وَعَدَمُ اسْتِغْنَائِهِ بِنَفْسِهِ فِي فِعْلِهِ وَأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مُوجِبٌ لِلِافْتِقَارِ مُزِيلٌ لِلْغِنَى ; فَإِنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْفِعْلِ مُتَعَاوِنَانِ عَلَيْهِ وَأَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ - إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ - أَنْ يَفْعَلَ وَحْدَهُ مَا فَعَلَهُ هُوَ وَالْآخَرُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ شَيْئًا حَالَ الِانْفِرَادِ - وَقُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ ; وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِنَظِيرِهِ - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُهُمَا حَالَ الِاشْتِرَاكِ هُوَ مِثْلُ مَفْعُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَالَ الِانْفِرَادِ ; فَإِنَّ الْمَفْعُولَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ إلَّا مِنْ الْفَاعِلِ ; وَالْفَاعِلُ حَالَ انْفِرَادِهِ لَهُ مَفْعُولٌ ; فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَفْعُولُهُمَا جَمِيعًا أَكْثَرَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ مَفْعُولِ أَحَدِهِمَا وَإِلَّا كَانَ الزَّائِدُ كَالنَّاقِصِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَغَيَّرَ الْفَاعِلُ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي يَرْفَعُ هُوَ وَآخَرُ خَشَبَةً أَوْ يَصْنَعُ طَعَامًا ثُمَّ هُوَ وَحْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَغْيِيرِ مِنْهُ فِي إرَادَتِهِ وَحَرَكَتِهِ وَآلَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَإِذَا اسْتَوَى حَالَاهُ امْتَنَعَ تَسَاوِي الْمَفْعُولَيْنِ حَالَ الِانْفِرَادِ وَالِاشْتِرَاكِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَكُلٌّ مِنْ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي مَفْعُولٍ فَأَحَدُهُمَا مُفْتَقِرٌ إلَى الْآخَرِ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ ; مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُونَا مُشْتَرِكَيْنِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ مُنْفَرِدًا بِهِ ; أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ أَوْ مُعَاوِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا مُنْفَرِدًا بِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَفْعُولَ بِهِ وَحْدَهُ بَلْ بِهِ وَبِالْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ بَلْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْآخَرِ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِيهِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ وَلَا مَالِكَهُ وَلَا خَالِقَهُ بَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ . وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا عَنْ الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ الْمَفْعُولِ بَلْ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِيهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِيهِ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَجْزَهُ وَعَدَمَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ حَالَ الِانْفِرَادِ أَيْضًا كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَرِدُ بِمَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ تَغَيُّرًا يُوجِبُ تَمَامَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا شَارَكَهُ فِيهِ الْغَيْرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ حَالَ الِانْفِرَادِ قَادِرًا تَامَّ الْقُدْرَةِ ; وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِلْمَفْعُولِ إرَادَةً جَازِمَةً ; إذْ لَوْ لَمْ يُرِدْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَمَا وُجِدَ حَالَ الِانْفِرَادِ وَلَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاشْتِرَاكِ : إذْ الْإِرَادَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِجَازِمَةٍ لَا يُوجَدُ مُرَادُهَا الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُرِيدُ بِحَالِ وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ بِلَا قُدْرَةٍ لَا يُوجَدُ مُرَادُهَا وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُشْتَرِكَيْنِ تَامَّ الْقُدْرَةِ تَامَّ الْإِرَادَةِ لَوَجَبَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ وَوُجُودُهُ بِهِ وَحْدَهُ يَمْنَعُ وُجُودَهُ بِالْآخَرِ فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ : وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ : وَعَدَمُ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا غَيْرَ فَاعِلٍ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ . وَهَذَا التَّمَانُعُ لَيْسَ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلَيْنِ يَمْنَعُ الْآخَرَ كَمَا يُقَالُ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَالْآخَرُ تَسْكِينَهُ ; أَوْ إمَاتَةَ شَخْصٍ وَالْآخَرُ إحْيَاءَهُ وَإِنَّمَا هُوَ تَمَانُعٌ ذَاتِيٌّ وَهُوَ : أَنَّهُ تَمَانُعُ اشْتِرَاكِ شَرِيكَيْنِ تَامَّيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي مَفْعُولٍ هُمَا عَلَيْهِ تَامَّا الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ عَلَى الشَّيْءِ تَامُّ الْقُدْرَةِ وَهُوَ لَهُ تَامُّ الْإِرَادَةِ وَجَبَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ كَذَلِكَ وَجَبَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ . وَهَذَانِ يَتَتَابَعَانِ وَيَتَمَانَعَانِ إذْ الْإِثْبَاتُ يَمْنَعُ النَّفْيَ وَالنَّفْيُ يَمْنَعُ الْإِثْبَاتَ تَمَانُعًا وَتَنَاقُضًا ذَاتِيًّا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ مُوجِبٌ لِنَقْصِ الشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْقُدْرَةِ وَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ مُرِيدَانِ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي يَفْعَلُهُ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَفْعُولَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْآخَرُ وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِبَعْضِ الْمَفْعُولِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا انْفَرَدَ إلَّا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ قُدْرَةٌ أَكْمَلُ مِنْ الْقُدْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً حَالَ الِاشْتِرَاكِ فَإِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ وَاحِدًا قَدْ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ انْفِرَادُ فَاعِلٍ بِبَعْضِهِ وَفَاعِلٍ آخَرَ بِبَعْضِهِ : امْتَنَعَ فِيهِ اشْتِرَاكُ الِامْتِيَازِ كَاشْتِرَاكِ بَنِي آدَمَ فِي مَفْعُولَاتِهِمْ الَّتِي يَفْعَلُ هَذَا بَعْضَهَا وَهَذَا بَعْضَهَا وَامْتَنَعَ فِيهِ اشْتِرَاكُ الِاخْتِلَاطِ إلَّا مَعَ عَجْزِ أَحَدِهِمَا وَنَقْصِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِقَوْلِنَا : إنَّ الِاشْتِرَاكَ مُوجِبٌ لِنَقْصِ الْقُدْرَةِ . فَصْلٌ ثُمَّ يُقَالُ : هَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا قَوِيًّا بَلْ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ فِي مَفْعُولَاتِهِ عَاجِزًا عَنْ الِانْفِرَادِ بِهَا - إذْ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ لَا يُمْكِنُ . وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِوَاحِدِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِاثْنَيْنِ فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لَا يَخْتَلِفُ بِتَعَدُّدِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَتَوَحُّدِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِوَاحِدِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِاثْنَيْنِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِاثْنَيْنِ هُوَ مُمْكِنٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا لِوَاحِدِ . وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ الْإِمْكَانُ وَالِامْتِنَاعُ لِمَعْنَى فِي الْمُمْكِنِ الْمَفْعُولِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إذْ صِفَاتُ ذَاتِهِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى فِي الْقَادِرِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَقُومَ بِوَاحِدِ ; بَلْ إمْكَانُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا : كُلُّ مَا كَانَ مَحَلُّهَا مُتَّحِدًا مُجْتَمِعًا كَانَ أَكْمَلَ لَهَا فِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا وَلِهَذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يُوجِبُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَانْفَرَدَتْ وَإِنْ كَانَتْ أَحْوَالُهَا بَاقِيَةً بَلْ الْأَشْخَاصُ وَالْأَعْضَاءُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُفْتَرِقَةِ قَدْ قَامَ بِكُلِّ مِنْهَا قُدْرَةٌ فَإِذَا قُدِّرَ اتِّحَادُهَا وَاجْتِمَاعُهَا كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا مِنْ الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يَكُنْ حِينَ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ ذَيْنَك الِاثْنَيْنِ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا تَكُونُ الْقُدْرَةُ أَكْمَلَ فَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِلْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِمَحَلَّيْنِ ؟ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَحَلَّيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَامَ بِهِمَا قُدْرَتَانِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ قَامَتَا بِهِ لَمْ تَنْقُصْ الْقُدْرَةُ بِذَلِكَ بَلْ تَزِيدُ عُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُمْكِنَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لِقَادِرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا قَادِرٌ وَاحِدٌ قَدْ قَامَ بِهِ مَا قَامَ بِهِمَا لَمْ يَنْقُصْ بِذَلِكَ بَلْ يَزِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ فِي الْمُشْتَرِكَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَا شَيْئًا وَاحِدًا قَادِرًا عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ أُخْرَى وَإِذَا كَانَ يُمْكِنُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَتَغَيَّرَ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ وَيُغَيِّرَهَا إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْفِرَادِ بِمَفْعُولِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَتَغْيِيرِهَا أَوْلَى وَإِذَا كَانَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيُكْمِلَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ ; بَلْ يَكُونُ فِيهِ إمْكَانٌ وَافْتِقَارٌ إلَى غَيْرِهِ . وَالتَّقْدِيرُ : أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ [ غَيْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ ] فَيَكُونُ وَاجِبًا مُمْكِنًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ إذْ مَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ تَكُونُ نَفْسُهُ كَافِيَةً فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ ; إذْ ذَلِكَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى ذَاتِهِ بَلْ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ وَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ يُوجِبُ افْتِقَارَهُ فِي فِعْلِهِ وَصِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ إذْ مَفْعُولُهُ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ كَافِيَةً غَنِيَّةً لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى غَيْرِهِ فِي فِعْلِهَا فَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ دَلِيلُ عَدَمِ غِنَاهُ وَعَلَى حَاجَتِهِ إلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْوُجُودِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : كَانَ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شَرِيكٍ فِي الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ وَحْدَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الشَّرِيكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ بَلْ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ عَنْ بَعْضِ الْأَسْبَابِ إلَّا يُشَارِكُهُ سَبَبٌ آخَرُ لَهُ فَيَكُونُ - وَإِنْ سُمِّيَ عِلَّةً - عِلَّةً مُقْتَضِيَةً سَبَبِيَّةً لَا عِلَّةً تَامَّةً وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطًا لِلْآخَرِ . كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَبَبٌ إلَّا وَلَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ فِي الْفِعْلِ فَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقِ مِمَّا يُسَمَّى عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ قَادِرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مُؤَثِّرًا - فَلَهُ شَرِيكٌ هُوَ لَهُ كَالشَّرْطِ وَلَهُ مُعَارِضٌ هُوَ لَهُ مَانِعٌ وَضِدٌّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } وَالزَّوْجُ يُرَادُ بِهِ : النَّظِيرُ الْمُمَاثِلُ وَالضِّدُّ الْمُخَالِفُ . وَهَذَا كَثِيرٌ فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا لَهُ شَرِيكٌ وَنِدٌّ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ وَلَا مِثْلَ لَهُ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُسَمَّى خَالِقًا وَلَا رَبًّا مُطْلَقًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ وَالِانْفِرَادَ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْنُوعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَلِهَذَا وَإِنْ تَنَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ يَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ وَادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَوْصَافٍ بَلْ قِيلَ : لَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ إذْ [ لَيْسَ ] فِي الْمَخْلُوقِ مَا يَكُونُ وَحْدَهُ عِلَّةً وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ إلَّا مَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَاحِدٌ يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ بَلْ لَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ إلَّا عَنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا . وَأَمَّا الْوَاحِدُ الَّذِي يَفْعَلُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ إلَّا اللَّهُ فَكَمَا أَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ وَاجِبَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لَهُ فَالْمُشَارَكَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمَخْلُوقِ لَازِمَةٌ لَهُ والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكَمَالِ وَالْكَمَالُ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا . وَالِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّقْصَانِ وَالنُّقْصَانُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ . والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَوُجُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ الْغِنَى وَالْوُجُوبِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفَقْرِ إلَى الْغَيْرِ وَالْإِمْكَانِ بِالنَّفْسِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ وَالْإِمْكَانُ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِلِاشْتِرَاكِ . فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ دَلَائِلِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْلَامِهَا وَهِيَ مِنْ دَلَائِلِ إمْكَانِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَشْهُودَاتِ وَفَقْرِهَا وَأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ فَهِيَ مِنْ أَدِلَّةِ إثْبَاتِ الصَّانِعِ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ وَالِاشْتِرَاكِ يُوجِبُ افْتِقَارَهَا وَإِمْكَانَهَا وَالْمُمْكِنُ الْمُفْتَقِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ فُرِضَ تَسَلْسُلُ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ فَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا مُمْكِنَةٌ وَالْمُمْكِنُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَقِيرٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَيْضًا فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ بِحَالِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ; وَعَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ ; وَهُوَ : التَّوْحِيدُ الْوَاجِبُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ ; لِوُجُوهِ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . مِثْلَ : أَنَّ الْمُتَحَرِّكَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَرَكَةٍ إرَادِيَّةٍ وَلَا بُدَّ لِلْإِرَادَةِ مِنْ مُرَادٍ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ . وَالْمَخْلُوقُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَانِ بِأَنْفُسِهِمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَرَادَانِ بِأَنْفُسِهِمَا .