تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ الْمَاءُ الْجَارِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ خَارِجًا مِنْهَا أَوْ نَازِلًا فِي بَلَالِيعِهَا لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ بَلْ بِطَهَارَتِهِ إلَّا أَنْ تُعْلَمَ نَجَاسَةُ شَيْءٍ مِنْهُ ; وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْحَمَّامَ لَمْ يُنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِكَوْنِهَا مَظِنَّةَ النَّجَاسَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : إذَا غَسَلْنَا مَوْضِعًا مِنْهَا أَوْ تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ . وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَالَ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا . كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي داود وَغَيْرِهِ - وَقَدْ صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ الْحُفَّاظِ وَبَيَّنُوا أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ أَرْسَلَهُ لَا تُنَافِي الرِّوَايَةَ الْمُسْنَدَةَ الثَّابِتَةَ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } فَاسْتَثْنَى الْحَمَّامَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الِاسْمُ مَا دَخَلَ فِي الْمُسَمَّى . فَلَهُمْ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّهْيَ تَعَبُّدٌ . لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ . كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . كَأَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطبراني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا قَالَ : بَيْتُك الْحَمَّامُ قَالَ : اجْعَلْ لِي قُرْآنًا قَالَ : قُرْآنُك الشِّعْرُ قَالَ : اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا قَالَ : مُؤَذِّنُك الْمِزْمَارُ } وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَتَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ وَإِنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ } إذْ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ هُنَاكَ بِالنَّجَاسَةِ ; لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَمَبَارِكِ الْغَنَمِ وَكِلَاهُمَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ سَوَاءٌ . كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِهَا ; بِأَنَّهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلُحُومِ الْغَنَمِ وَكِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ وَعَدِمِهِ سَوَاءٌ . وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ بِنَجَاسَةِ التُّرَابِ هُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا وَعَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ . أَنَّ النَّهْيَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَظِنَّةِ الشِّرْكِ وَمُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ . وَأَيْضًا فَنَجَاسَةُ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ نَخْلٌ وَخَرِبٌ . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ وَجُعِلَتْ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَأَمَرَ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ وَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ فَهَذِهِ مَقْبَرَةٌ مَنْبُوشَةٌ كَانَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ . ثُمَّ لَمَّا نَبَشَ الْمَوْتَى جُعِلَتْ مَسْجِدًا مَعَ بَقَاءِ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ التُّرَابِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التُّرَابُ نَجِسًا لَوَجَبَ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ الْمَسْجِدِ التُّرَابَ النَّجِسَ لَا سِيَّمَا إذَا اخْتَلَطَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُلَ مَا يَتَيَقَّنَ بِهِ زَوَالَ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ التُّرَابِ وَلَا بِإِزَالَةِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ مِنْهُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِظُهُورِ الْقُبُورِ لَا بِظَنِّ نَجَاسَةِ التُّرَابِ ; وَأَيْضًا مَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ . كَمَا قَالَهُ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْأَعْطَانِ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا . كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَمَبَارِكِ الْغَنَمِ ; وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى كَوْنَهَا مَسْجِدًا فَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ ; وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا مُؤَكَّدًا بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَلِأَنَّهُ لَعَنَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يَحْذَرُ مَا فَعَلُوا وَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ شِرَارَ الْخَلِيقَةِ بِقَوْلِهِ : { إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ احْتِمَالَ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِيهَا بَلْ ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ بِمَا يُصِيبُهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ . كَمَا هُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَمَالِكٍ فِي قَوْلٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَإِنَّهُ ثَابِتٌ أَنَّ الْكِلَابَ كانت تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } وَقَالَ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ : فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طُهُورٍ } فَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ يُطَهِّرُ أَسْفَلَ الْخُفِّ ; فَلَأَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ غَالِبَ طُرُقَاتِ النَّاسِ تَحْتَمِلُ مِنْ النَّجَاسَةِ نَحْوَ مَا تَحْتَمِلُهُ الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ النَّهْيِ لَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ فِيهَا أَظْهَرُ . فَهَذِهِ السُّنَنُ تُبْطِلُ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ التُّرَابَ مُطَهِّرٌ لِمَا يُلَاقِيهِ فِي الْعَادَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : الْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي فِي الْحَمَّامِ فَنَقُولُ : إنَّ كَرَاهَةَ هَذَا الْمَاءِ وَتَوَقِّيَهُ وَغَسْلَ مَا يُصِيبُ الْبَدَنَ وَالثَّوْبَ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْذَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ النَّجَاسَةِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَا يَغْسِلُ الْإِنْسَانُ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ مِنْ الْوَسَخِ وَالدَّنَسِ وَمِنْ الْوَحْلِ الَّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَمِنْ الْمَنِيِّ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْمِيَاهِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِمَقَرِّهَا وَمُمَازِجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ فِيهِ الْآنَ . وَأَمَّا اجْتِنَابُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَنْجِيسِهِ فَحُجَّتُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا الْمَاءَ فِي مَظِنَّةِ أَنْ تُخَالِطَهُ النَّجَاسَةُ وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْبَوْلِ ; فَإِنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ الَّتِي قَدْ تَكُونُ فِي الْحَمَّامِ . فَأَمَّا الْعَذِرَةُ أَوْ الدَّمُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَكَادُ تَكُونُ فِي الْحَمَّامِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَادِرًا تَمَيَّزَ وَظَهَرَ . وَأَيْضًا فَقَدْ يُزَالُ بِهِ نَجَاسَةٌ تَكُونُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ الثِّيَابِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ يَكُونُ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ إمَّا مِنْ تَخَلِّي وَإِمَّا مِنْ مَرَضٍ وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ فَيَغْسِلُهَا فِي الْحَمَّامِ . وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْآنِيَةِ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَا يُغْسَلُ فِيهَا مِنْ الثِّيَابِ نَجِسًا . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَاءُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ فَهَذِهِ الْحُجَّةُ الْمُعْتَمَدَةُ . وَالْجَوَابُ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : الْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : الْمَاءُ الْفَائِضُ مِنْ حِيَاضِ الْحَمَّامِ وَالْمَصْبُوبُ عَلَى أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ أَوْ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ طَاهِرٌ بِيَقِينِ وَمَا ذُكِرَ مَشْكُوكٌ فِي إصَابَتِهِ لِهَذَا الْمَاءِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْحَمَّامَ يَكُونُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا فَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْمُعَيَّنَ أَصَابَهُ هَذَا وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ لِكَثْرَةِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ أَبْوَالِ الدَّوَابِّ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ : بِطَهَارَتِهِ بَلْ النَّجَاسَةُ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ : فَإِنَّ الْحَمَّامَ وَإِنْ خَالَطَ بَعْضَ مِيَاهِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يَنْدَفِعُ وَلَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ طِينِ الشَّوَارِعِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّجَاسَةِ فَالظَّاهِرُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا مَا تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ فِي الْعَادَةِ وَمَا لَا تُلَاقِيهِ كَانَ مَا لَا تُلَاقِيهِ أَكْثَرَ بِكَثِيرِ . فَإِنَّ غَالِبَ الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ لَا يُلَاقِيهَا فِي الْعَادَةِ نَجَاسَةٌ وَإِذَا اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ لَمْ تَبْقَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ بَلْ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ . وَلِهَذَا قُلْت : إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ ذَلِكَ تَنَجُّسًا فَإِنَّهُ وَسْوَاسٌ . وَلَنَا فِيمَا إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ هَلْ يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَنْ نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ : أَظْهَرُهُمَا لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ لِحَدِيثِ عُمَرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَائِبِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِلْمِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ - أَنَّ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اجْتِنَابِهَا فِي الصَّلَاةِ فَمَسْأَلَةُ إصَابَتِهَا لَنَا فِيهَا أَيْضًا وَجْهَانِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا أَنَّ الْغَالِبَ التَّنَجُّسُ فَقَدْ يُعَارِضُ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ وَفِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا كَثِيَابِ الْكُفَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ - كَطِينِ الشَّوَارِعِ - يُرَجِّحُونَ الطَّهَارَةَ وَإِذَا قِيلَ بِالتَّنْجِيسِ فِي مِثْلِ هَذَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ لَكِنَّهُ مَاءٌ جَارٍ فَإِنَّهُ سَاحَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا نَصُّهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ شِدَّةِ قَوْلِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ . وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَارِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ الْبَوْلُ فِيهِ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ : وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ . فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ كَالدَّائِمِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُلَّتَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْجَرْيَةُ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ نَجَّسَتْهُ كَمَا هُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا وَلَا أَثَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . إلَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } وَقِيَاسُ الْجَارِي عَلَى الدَّائِمِ وَكِلَاهُمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ . أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَنْطُوقُهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي مَفْهُومِهِ ; وَدَلَالَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَا تَقْتَضِي عُمُومَ مُخَالَفَةِ الْمَنْطُوقِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ بَلْ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ لَيْسَ كَالْمَنْطُوقِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ فَرْقٍ ثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ كَانَ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ . فَإِذَا قَالَ : إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ دَلَّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَا لَمْ يَبْلُغْ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَالدَّائِمِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ وَرَدَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ . فَيَبْقَى قَوْلُهُ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } الْوَارِدُ فِي بِئْرِ بضاعة مُتَنَاوِلًا لِلْجَارِي . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَ لَهُ قُوَّةُ دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَهَّرَهَا ; وَلَمْ يَتَنَجَّسْ فَكَيْفَ لَا يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ ; وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يُحِيلُ النَّجَاسَةَ بِجَرَيَانِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ : هَلْ هُوَ تَنْجِيسُ الْمَاءِ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ ؟ أَوْ عَدَمُ تَنْجِيسِهِ حَتَّى تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ : الْعَفْوُ عَمَّا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ : كَانَ لِلْمَشَقَّةِ ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ حِفْظُهُ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْغُدْرَانِ وَالْآبَارِ ; بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَوَانِي وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَارِي فَإِنَّ حِفْظَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ أَصْعَبُ مِنْ حِفْظِ الدَّائِمِ الْكَثِيرِ . وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي وَأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ حَتَّى تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ كَانَ التَّطْهِيرُ عَلَى قَوْلِهِ أَوْكَدَ فَإِنَّ الْقَلِيلَ الدَّائِمَ نَجِسٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ . وَأَمَّا الْجَارِي فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ جَرَيَانِهِ يُحِيلُ الْخَبَثَ فَلَا يَحْمِلُهُ كَمَا لَا يَحْمِلُهُ الْكَثِيرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَهَذِهِ الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي حَمَّامٍ إذَا خَالَطَهَا بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُهُمَا كَانَتْ نَجَاسَةً قَدْ خَالَطَتْ مَاءً جَارِيًا فَلَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَالْكَلَامُ فِيمَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ النَّجَاسَةُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُخَالِطُهُ السِّدْرُ والخطمي وَالتُّرَابُ . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ وَالْأُشْنَانُ وَالصَّابُونُ وَالْحِنَّاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ الَّتِي تَخْتَلِطُ بِهِ حَتَّى لَا تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ . قِيلَ : إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ ظَاهِرَةً فِيهِ وَجَازَ أَنْ لَا تَكُونَ ظَاهِرَةً فَالْأَصْلُ عَدَمُ ظُهُورِهَا وَإِذَا كَانَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ تُخَالِطُهُ الطَّاهِرَاتُ وَرَأَيْنَاهُ مُتَغَيِّرًا أَحَلْنَا التَّغَيُّرَ عَلَى مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ إذْ الْحُكْمُ الْحَادِثُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ لَا إلَى الْمُقَدَّرِ الْمَظْنُونِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ النَّصُّ بِذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ ; كَالصَّيْدِ إذَا جُرِحَ وَغَابَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ إبَاحَتُهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ زُهِقَ بِسَبَبِ آخَرَ أَصَابَهُ فَزُهُوقُهُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ جَرْحُ الصَّائِدِ أَوْ كَلْبُهُ ; وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي ثَبَتَ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ . الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : هَبْ أَنَّ الْمَاءَ تَنَجَّسَ فَإِنَّهُ صَارَ نَجَاسَةً عَلَى الْأَرْضِ وَالنَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ عَلَى الْأَرْضِ بَوْلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ بَوْلٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا إذَا لَمْ تَبْقَ عَيْنُهَا . كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ . حَيْثُ قَالَ : { لَا تزرموه } أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِوَلَهِ . { فَصُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } وَقَالَ : { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : إنَّ نَجَاسَةَ الْأَرْضِ وَالْبِرَكِ وَالْحِيَاضِ الْمَبْنِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ يُخَالِفُ النَّجَاسَةَ عَلَى الْمَنْقُولِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْآنِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ . لَا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَلَا غَيْرِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِانْفِصَالُ عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْغُسَالَةَ طَاهِرَةٌ قَبْلَ انْفِصَالِهَا عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : مَا كَانَ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ بَوْلٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَطَهُرَتْ الْأَرْضُ مَعَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ غُسَالَةُ الْأَرْضِ طَاهِرَةً زَالَتْ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَاءِ مَا تُزَالُ بِهِ نَجَاسَةٌ عَنْ الْبَدَنِ أَوْ آنِيَةٍ . أَوْ ثَوْبٍ . قِيلَ لَهُ : فَهَذِهِ إذَا كَانَتْ نَجِسَةً وَأَصَابَتْ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْ الْبَوْلِ الْمُصِيبِ الْأَرْضَ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ تَزُولُ مَعَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَهَذِهِ أَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ النَّجَاسَةُ مُنْتَفِيَةٌ وَمُرُورُ الْمَاءِ الْمُطَهِّرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمَارُّ مِمَّا لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا . أَوْ لِتَغَيُّرِهِ بِالطَّاهِرَاتِ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : لَيْسَ الْكَلَامُ فِي نَجَاسَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُنْتَفِيَةٍ مَشْكُوكٍ فِي زَوَالِهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا يُعْتَادُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْعَادَاتِ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُطَهِّرَ وَالْجَارِيَ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ أَكْثَرُ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ قَدْ طَهَّرَ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ نَجَسٍ فَإِنَّ اغْتِسَالَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ فِي الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ اغْتِسَالِهِمْ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ وَهُمْ يَصُبُّونَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ الَّذِي يَنْفَصِلُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ يَسِيرٌ بِيَسِيرِ السِّدْرِ وَالْأُشْنَانِ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بَلْ الرَّاجِحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - الَّتِي نَصَّهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالطَّاهِرِ كَالْحِمْصِ وَالْبَاقِلَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا دَامَ اسْمُ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُهُ كَالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ وَمَا تَغَيَّرَ بِمَا يَشُقُّ صَوْنُهُ عَنْهُ مِنْ الطُّحْلُبِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ شُمُولَ اسْمِ الْمَاءِ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَقَدْ تَنَاوَلَ الْآخَرَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِلْمُتَغَيِّرِ ابْتِدَاءً وَطَرْدًا لِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيَتَنَاوَلُ الثَّالِثَ إذْ الْفَرْقُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى أَمْرٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي اللُّغَةِ وَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ لِمَعْنَاهُ وَشُمُولِ الِاسْمِ مُسَمَّاهُ فَيَحْتَاجُ الْمُفَرِّقُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ : { اغْسِلُوهُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَكَذَلِكَ قَالَ لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ : { اغْسِلْنَهَا بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَلِلَّذِي أَسْلَمَ : { اغْتَسِلْ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ظَهَرَ عَظِيمُ الْبِدْعَةِ وَتَغْيِيرُ السُّنَّةِ وَالشِّرْعَةِ فِيمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ فَرْطِ الْوَسْوَسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى صَارُوا إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ مُضَاهِينَ لِلْيَهُودِ بَلْ لِلسَّامِرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا مِسَاسَ . وَبَابُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ - الَّذِي مِنْهُ بَابُ التَّطْهِيرِ وَالتَّنْجِيسِ - دِينُ الْإِسْلَامِ فِيهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا هُوَ وَسَطٌ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ فَلَمْ يُشَدَّدْ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ كَمَا شُدِّدَ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ بَلْ وُضِعَتْ عَنَّا الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ قَرْضِ الثَّوْبِ وَمُجَانَبَةِ الْحَائِضِ فِي الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَمْ تُحَلَّلْ لَنَا الْخَبَائِثُ كَمَا اسْتَحَلَّهَا النَّصَارَى ; الَّذِينَ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ فَلَا يَجْتَنِبُونَ نَجَاسَةً وَلَا يُحَرِّمُونَ خَبِيثًا بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ طَهِّرْ قَلْبَك وَصَلِّ . وَالْيَهُودِيُّ إنَّمَا يَعْتَنِي بِطَهَارَةِ ظَاهِرِهِ لَا قَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ مِنْ الْخَبَائِثِ وَأَمَّا الطَّيِّبَاتُ فَأَبَاحَهَا لَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى .