وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْخَمْرَةِ : إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهَا هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا ؟ أَوْ يَبِيعَهَا ؟ أَوْ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ هَلْ يَأْكُلُ مِنْهَا أَوْ يَبِيعُهَا ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا التَّخْلِيلُ فَفِيهِ نِزَاعٌ . قِيلَ يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ; لَكِنْ إذَا خُلِّلَتْ طَهُرَتْ كَمَا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ وَقِيلَ يَجُوزُ بِنَقْلِهَا مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَكَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ; دُونَ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ . كَمَا هُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ . كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خَمْرٍ لِيَتَامَى فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا . فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُمْ فُقَرَاءُ فَقَالَ : سَيُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ . فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ . هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَتْ مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَأُمِرُوا بِذَلِكَ كَمَا أُمِرُوا بِكَسْرِ الْآنِيَةِ وَشَقِّ الظُّرُوفِ لِيَمْتَنِعُوا عَنْهَا . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ هَذَا نَصٌّ يَنْسَخُهُ . الثَّانِي : أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمِلُوا بِهَذَا . كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ خَلِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ " . فَهَذَا عُمَرُ يَنْهَى عَنْ خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي قَصَدَ إفْسَادَهَا وَيَأْذَنُ فِيمَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَيُرَخِّصُ فِي اشْتِرَاءِ خَلِّ الْخَمْرِ . مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُفْسِدُونَ خَمْرَهُمْ وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ . وَفِي قَوْلِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ الصَّحَابَةُ كَانُوا أَطْوَعَ النَّاسِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرُ أَرَاقُوهَا فَإِذَا كَانُوا مَعَ هَذَا قَدْ نُهُوا عَنْ تَخْلِيلِهَا وَأُمِرُوا بِإِرَاقَتِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَلَّظَ عَلَى النَّاسِ الْعُقُوبَةَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ حَتَّى كَانَ يَنْفِي فِيهَا لِأَنَّ أَهْلَ زَمَانِهِ كَانُوا أَقَلَّ اجْتِنَابًا لَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَيْفَ يَكُونُ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَهُ أَقَلُّ اجْتِنَابًا لِلْمَحَارِمِ فَكَيْفَ تُسَدُّ الذَّرِيعَةُ عَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ وَتُفْتَحُ لِغَيْرِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّ تَقْوَى مِنْهُمْ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى : " خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ " فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَكِنْ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ خَلَّ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ فِيهَا مَاءٌ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ . وَأَيْضًا فَكُلُّ خَمْرٍ يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ بِلَا مَاءٍ فَهُوَ مِثْلُ خَلِّ الْخَمْرِ . وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ عَمَلَ الْخَلِّ : أَنَّهُ يُوضَعُ أَوَّلًا فِي الْعِنَبِ شَيْءٌ يُحَمِّضُهُ حَتَّى لَا يَسْتَحِيلَ أَوَّلًا خَمْرًا . وَلِهَذَا تَنَازَعُوا فِي خَمْرَةِ الْخِلَالِ : هَلْ يَجِبُ إرَاقَتُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ إرَاقَتِهَا كَغَيْرِهَا ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ خَمْرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ وَلَوْ كَانَ لِشَيْءِ مِنْ الْخَمْرِ حُرْمَةٌ لَكَانَتْ لِخَمْرِ الْيَتَامَى الَّتِي اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ مُسْلِمٍ خَمْرٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي التَّخْلِيلِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحٌ لَهَا كَدِبَاغِ الْجِلْدِ النَّجِسِ . وَبَعْضُهُمْ قَالَ : اقْتِنَاؤُهَا لَا يَجُوزُ : لَا لِتَخْلِيلِ وَلَا غَيْرِهِ . لَكِنْ إذَا صَارَتْ خَلًّا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسَةً وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إذَا أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ تَنَجَّسَ أَوَّلًا ثُمَّ تَنَجَّسَتْ بِهِ ثَانِيًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُلْقَ فِيهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ . وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَقَالُوا : قَصْدُ الْمُخَلِّلِ لِتَخْلِيلِهَا هُوَ الْمُوجِبُ لِتَنْجِيسِهَا فَإِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ اقْتِنَائِهَا وَأُمِرَ بِإِرَاقَتِهَا فَإِذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا . وَغَايَةُ مَا يَكُونُ تَخْلِيلُهَا كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالْعَيْنِ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْحَيَوَانُ مُحَرَّمًا قَبْلَ التَّذْكِيَةِ وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالتَّذْكِيَةِ فَلَوْ ذَكَّاهُ تَذْكِيَةً مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يُذَكِّيَهُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّة مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ . أَوَّلًا يَقْصِدُ ذَكَاتَهُ . أَوْ يَأْمُرُ وَثَنِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا بِتَذْكِيَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ . وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَمْ يَصِرْ ذَكِيًّا فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ طَاهِرَةً حَلَالًا فِي حَالٍ وَتَكُونُ حَرَامًا نَجِسَةً فِي حَالٍ . تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ : كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ . وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الذَّبِيحَةِ بِالْمُحَدَّدِ وَغَيْرِهِ . وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَغَيْرِهِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ . وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ مَا قُصِدَ تَذْكِيَتُهُ وَمَا قُصِدَ قَتْلُهُ . حَتَّى إنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إذَا ذَكَّى الْحَلَالُ صَيْدًا أُبِيحَ لِلْحَلَالِ دُونَ الْمُحْرِمِ فَيَكُونُ حَلَالًا طَاهِرًا فِي حَقِّ هَذَا حَرَامًا نَجِسًا فِي حَقِّ هَذَا وَانْقِلَابُ الْخَمْرِ إلَى الْخَلِّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ مَا كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا فَإِذَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَصِرْ الْخَلُّ بِهِ حَلَالًا وَلَا طَاهِرًا كَمَا لَمْ يَصِرْ لَحْمُ الْحَيَوَانِ حَلَالًا طَاهِرًا بِتَذْكِيَةِ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَمْ تُشْتَرَ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ جَازَ اشْتِرَاؤُهَا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ لَا يَرْضَى أَنْ يُخَلِّلَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .