وَسُئِلَ عَنْ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ : هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُ ذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَيُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى تَنْجِيسِ ذَلِكَ . بَلْ الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَبَيَّنَّا فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ . وَالْقَائِلُ بِتَنْجِيسِ ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ أَصْلًا . فَإِنَّ غَايَةَ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ } وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْبَوْلُ الْمَعْهُودُ هُوَ بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ : { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَوْلِ الْآدَمِيِّ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ كَثِيرًا لَا مِنْ بَوْلِ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَا يُصِيبُهُ إلَّا نَادِرًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ العرنيين الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يَلْحَقُوا بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا } وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ . وَلَا بِغَسْلِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَبْوَالُ مَعَ حَدَثَانِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ بَوْلُ الْأَنْعَامِ كَبَوْلِ الْإِنْسَانِ لَكَانَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْأَلْبَانِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ طَاهِرَةٌ مَعَ أَنَّ التداوي بِالْخَبَائِثِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ } وَأَنَّهُ أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ حَائِلٍ وَلَوْ كَانَتْ أبعارها نَجِسَةً لَكَانَتْ مَرَابِضُهَا كَحُشُوشِ بَنِي آدَمَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ لَا يُصَلِّي فِيهَا إلَّا مَعَ الْحَائِلِ الْمَانِعِ فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ : كَانَ مَنْ سَوَّى بَيْن أَبْوَالِ الْآدَمِيِّينَ وَأَبْوَالِ الْغَنَمِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرِهِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَبُولَ الْبَعِيرُ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَدُوسُونَ حُبُوبَهُمْ بِالْبَقَرِ مَعَ كَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِي الْحَبِّ مِنْ الْبَوْلِ وَأَخْبَاثِ الْبَقَرِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ التَّنْجِيسُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ ; إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ .