القائمة
الرئيسية
عن الشيخ
تعريف بالشيخ
منهج الشيخ
أقوال العلماء
تلامذة الشيخ
مناظرات الشيخ
تعريف بالشيخ
منهج الشيخ
المــــراجــــــــع
تصنيــف المـراجــــــع
ترتيــب المراجع زمنيـاً
ترتيب المراجع أبجدياً
البحث المتقدم
البـحـث النـصــــي
البـحــث الفقهــي
الرئيسية
>
مَجْمُوعُ فتاوى ابْنِ تيمية
>
الْفِقْهُ
>
الزِّيَارَة
>
الْجَوَابُ الْبَاهِرُ فِي زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ
>
حُكْمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ
مسألة تالية
مسألة سابقة
تنسيق الخط:
16px
17px
18px
19px
20px
21px
22px
23px
24px
25px
26px
27px
28px
29px
30px
31px
32px
Adobe Arabic
Andalus
Arial
Simplified Arabic
Traditional Arabic
Tahoma
Times New Roman
Verdana
MS Sans Serif
(إخفاء التشكيل)
التحليل الفقهي
الأدلة
: الآيات | الأحاديث | الإجماع | آثار الصحابة | آثار التابعين | القياس | سد الذرائع | المعقول
الأعلام
: أعلام الرجال | أعلام النساء | أعلام الأماكن | الأنبياء | الفقهاء | الجماعات | كتب
التحليل الموضوعي
زِيَارَةِ الْقُبُورِ
زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ
زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ
الزِّيَارَةَ إذَا تَضَمَّنَتْ أَمْرًا مُحَرَّمًا : مِنْ شِرْكٍ أَوْ كَذِبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ نِيَاحَةٍ وَقَوْلِ هُجْرٍ
زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِمُجَرَّدِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَيِّتِ
زِيَارَةُ
قباء
جَاءَ إنْسَانٌ إلَى سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ
متن:
وَتَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي
زِيَارَةِ الْقُبُورِ
فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ
السَّلَفِ
إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ أَحَادِيثَ النَّسْخِ لَمْ يَرْوِهَا
الْبُخَارِيُّ
وَلَمْ تَشْتَهِرْ . وَلَمَّا ذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ
زِيَارَةَ الْقُبُورِ . احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي بَكَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ . وَنَقَلَ
ابْنُ بَطَّالٍ
عَنْ
الشَّعْبِيِّ
أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لَزُرْت قَبْرَ ابْنِي
.
وَقَالَ
النخعي
: كَانُوا يَكْرَهُونَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ
وَعَنْ
ابْنِ سيرين
مِثْلُهُ . قَالَ
ابْنُ بَطَّالٍ
: وَقَدْ سُئِلَ
مَالِكٌ
عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَالَ ; قَدْ كَانَ نَهَى عَنْهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا خَيْرًا لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ زِيَارَتَهَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى أَوَّلًا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَقِيلَ : لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ . وَقِيلَ لِأَجْلِ النِّيَاحَةِ عِنْدَهَا . وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ
} {
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
} أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَاثَرُونَ بِقُبُورِ الْمَوْتَى . وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ
ابْنُ عَطِيَّةَ
فِي تَفْسِيرِهِ
قَالَ : وَهَذَا تَأْنِيبٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَيْ حَتَّى جَعَلْتُمْ أَشْغَالَكُمْ الْقَاطِعَةَ لَكُمْ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ تَكَثُّرًا بِمَنْ سَلَفَ وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ . ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا
} فَكَانَ نَهْيُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ . ثُمَّ أَبَاحَ الزِّيَارَةَ بَعْدُ لِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ لَا لِمَعْنَى الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ وَتَسْنِيمِهَا بِالْحِجَارَةِ الرُّخَامِ وَتَلْوِينِهَا سَرَفًا وَبُنْيَانِ النَّوَاوِيسِ عَلَيْهَا هَذَا لَفْظُ
ابْنِ عَطِيَّةَ
. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْمُقَيَّرِ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ نُسِخَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَمْ يُنْسَخْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّسْخِ لَيْسَتْ مَشْهُورَةً . وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ مَا فِيهِ نَسْخٌ عَامٌّ . وَقَالَ الْآخَرُونَ : بَلْ نُسِخَ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : إنَّمَا نُسِخَ إلَى الْإِبَاحَةِ فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ مُبَاحَةٌ لَا مُسْتَحَبَّةٌ . وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ
وَأَحْمَد
. قَالُوا : لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ بَعْدَ الْحَظْرِ إنَّمَا تُفِيدُ الْإِبَاحَةَ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : {
كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَكُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا
} وَرُوِيَ {
فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا
} .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ لِمَا كَانَ يُقَالُ عِنْدَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ
كَالنَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ أَوَّلًا
لِأَنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ تَدِبُّ فِيهَا وَلَا يُدْرَى بِذَلِكَ فَيَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ وَهُوَ لَا يَدْرِي
. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَحَبَّةٌ لِلدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى مَعَ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ {
كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى
الْبَقِيعِ
فَيَدْعُو لَهُمْ
} . وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ
{
أَنَّهُ خَرَجَ إلَى
شُهَدَاءِ
أُحُدٍ
فَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَوْتَى كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ
} . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ {
أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ
} . وَهَذَا فِي
زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ
. وَأَمَّا
زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ
فَرُخِّصَ فِيهَا لِأَجْلِ تِذْكَارِ الْآخِرَةِ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {
زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ . وَقَالَ : اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ
} . وَالْعُلَمَاءُ الْمُتَنَازِعُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَحْتَجُّ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَيَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ - فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ - وَقَالَ تَعَالَى : {
وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
} {
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا
} . وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ ; فَإِنَّ
الزِّيَارَةَ إذَا تَضَمَّنَتْ أَمْرًا مُحَرَّمًا : مِنْ شِرْكٍ أَوْ كَذِبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ نِيَاحَةٍ وَقَوْلِ هُجْرٍ
: فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ
كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ وَالسَّاخِطِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زِيَارَتُهُمْ مُحَرَّمَةٌ . فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ دِينٌ إلَّا دِينُ الْإِسْلَامِ . وَهُوَ الِاسْتِسْلَامِ لِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ . فَيُسَلِّمُ لِمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَيُسَلِّمُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحِبُّهُ . وَهَذَا نَفْعَلُهُ وَنَدْعُو إلَيْهِ وَذَاكَ نُسَلِّمُهُ وَنَتَوَكَّلُ فِيهِ عَلَيْهِ . فَنَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا
وَبِمُحَمَّدِ
نَبِيًّا . وَنَقُولُ فِي صَلَاتِنَا : {
إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
} مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
} وَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
} وقَوْله تَعَالَى {
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ
} {
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
} . وَالنَّوْعُ الثَّانِي :
زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِمُجَرَّدِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَيِّتِ
لِقَرَابَتِهِ أَوْ صَدَاقَتِهِ فَهَذِهِ مُبَاحَةٌ كَمَا يُبَاحُ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ
. كَمَا {
زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ وَقَالَ : زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ
} . فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ كَانَ نَهَى عَنْهَا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ الْمُنْكَرِ فَلَمَّا عَرَفُوا الْإِسْلَامَ أَذِنَ فِيهَا
لِأَنَّ فِيهَا مَصْلَحَةٌ وَهُوَ تَذَكُّرُ الْمَوْتِ
. فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا رَأَى قَرِيبَهُ وَهُوَ مَقْبُورٌ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَاسْتَعَدَّ لِلْآخِرَةِ وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ جَزَعٌ فَيَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ . وَنَفْسُ الْحُزْنِ مُبَاحٌ إنْ قَصَدَ بِهِ طَاعَةً كَانَ طَاعَةً وَإِنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً كَانَ مَعْصِيَةً . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : فَهُوَ زِيَارَتُهَا لِلدُّعَاءِ لَهَا كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ . فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ مَا يَقُولُونَ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ . وَأَمَّا
زِيَارَةُ
قباء
فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى
الْمَدِينَةَ
أَنْ يَأْتِيَ
قباء
فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهَا . وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَأْتِيَ
الْبَقِيعَ
وَشُهَدَاءَ
أُحُدٍ
كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ يُقْصَدُ فِيهَا الدُّعَاءُ لَهُمْ لَا يُقْصَدُ فِيهَا أَنْ يَدْعُوَ مَخْلُوقًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ تُتَّخَذَ مَسَاجِدَ وَلَا تُقْصَدُ لِكَوْنِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا أَوْ بِهَا أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ .
وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ
. وَهَذَا مَشْرُوعٌ بَلْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَاتِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ
جَاءَ إنْسَانٌ إلَى سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ
كَانَ هَذَا شِرْكًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
. وَلَوْ نَدَبَهُ وَنَاحَ لَكَانَ أَيْضًا مُحَرَّمًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ . فَمَنْ احْتَجَّ بِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَهْلِ
الْبَقِيعِ
وَلِأَهْلِ
أُحُدٍ
عَلَى الزِّيَارَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَأَهْلُ النِّيَاحَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ ضَلَالًا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِصَلَاتِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بِالْمَيِّتِ وَيُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُنْدَبَ وَيُنَاحَ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ يُثَابُ عَلَيْهِ الْفَاعِلُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْعُوُّ لَهُ وَيَرْضَى بِهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ مَا هُوَ شِرْكٌ بِاَللَّهِ وَإِيذَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَظُلْمٌ مِنْ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْجَزَعِ الَّذِينَ لَا يُخْلِصُونَ لِلَّهِ الدِّينَ وَلَا يُسَلِّمُونَ لِمَا حَكَمَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَكُلُّ زِيَارَةٍ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا نَهَى عَنْهُ وَتَرْكَ مَا أَمَرَ بِهِ - كَاَلَّتِي تَتَضَمَّنُ الْجَزَعَ وَقَوْلَ الْهُجْرِ وَتَرْكَ الصَّبْرِ أَوْ تَتَضَمَّنُ الشِّرْكَ وَدُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَتَرْكَ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ - فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْأُولَى . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى إلَيْهَا بَلْ وَلَا عِنْدَهَا بَلْ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : {
لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا
} رَوَاهُ
مُسْلِمٌ
فِي صَحِيحِهِ
. فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَجْهٌ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَهُوَ أَنْ نَتَّخِذَهَا مَسَاجِدَ وَنَتَّخِذَهَا وَثَنًا وَنَتَّخِذَهَا عِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْصَدَ لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا أَنْ تُعْبَدَ كَمَا تُعْبَدُ الْأَوْثَانُ وَلَا أَنْ تُتَّخَذَ عِيدًا يُجْتَمَعُ إلَيْهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَمَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي
عَرَفَةَ
وَمِنًى . وَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَقِيلَ : مُبَاحَةٌ . وَقِيلَ : كُلُّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ نَحْمِلَ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَنُفَصِّلَ الزِّيَارَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَمُبَاحٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَهُوَ الصَّوَابُ . قَالَ
مَالِكٌ
وَغَيْرُهُ : لَا نَأْتِي إلَّا هَذِهِ الْآثَارَ :
مَسْجِدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَسْجِدَ قباء
وَأَهْلَ الْبَقِيعِ
وَأُحُدٍ
. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إلَّا هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ وَهَاتَيْنِ الْمَقْبَرَتَيْنِ كَانَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَيَوْمَ السَّبْتِ يَذْهَبُ إلَى
قباء
كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ
ابْنِ عُمَرَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي
قباء
كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ
} . وَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّهْيِ فَكَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي
الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَعَنَ اللَّهُ
الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ
عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا
} . رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ
. وَفِي
صَحِيحِ
مُسْلِمٍ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : {
إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ
} . وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ
عَائِشَةَ
وَابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : {
لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
قَاتَلَ اللَّهُ
الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
} . وَفِي لَفْظٍ : {
لَعَنَ اللَّهُ
الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
} . وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ
عَائِشَةَ
{
أَنَّ
أُمَّ حَبِيبَةَ
وَأُمَّ سَلَمَةَ
ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ
فِيهَا تَصَاوِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} .
وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
صَاحِبَةُ الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْ رَوَتْ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا مِنْ
الصَّحَابَةِ
كَابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ
وَجُنْدُبٍ
وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ
: {
إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ
} . رَوَاهُ
أَبُو حَاتِمٍ
فِي صَحِيحِهِ
وَالْإِمَامُ أَحْمَد
فِي مُسْنَدِهِ
. وَفِي
سُنَنِ
أَبِي داود
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي
} . وَفِي
مُوَطَّأِ
مَالِكٍ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
} . وَفِي
سُنَنِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
- أَحَدُ الْأَشْرَافِ الحسنيين بَلْ أَجَلُّهُمْ قَدْرًا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ فِي خِلَافَةِ
الْمَنْصُورِ
وَغَيْرِهِ - رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
قَالَ : لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي
} . فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ
بِالْأَنْدَلُسِ
إلَّا سَوَاءٌ
. فَلَمَّا أَرَادَ الْأَئِمَّةُ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ طَلَبُوا مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّتِهِ . فَاعْتَمَدَ
الْإِمَامُ أَحْمَد
عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ
} . وَعَنْ
أَحْمَد
أَخَذَ ذَلِكَ
أَبُو داود
فَلَمْ يَذْكُرْ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ " بَابَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ " مَعَ أَنَّ دِلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَقْصُودِ فِيهَا نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كُلِّ مَا تُسَمِّيهِ النَّاسُ " زِيَارَةً "
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
. وَيَبْقَى الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ فِيهِ : هَلْ هُوَ السَّلَامُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا كَانَ مَنْ دَخَلَ عَلَى
عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ؟ أَوْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ . فَاَلَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ جَعَلُوهُ مُتَنَاوِلًا لِهَذَا وَهَذَا وَهُوَ غَايَةُ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ السَّلَامَ مِنْ الْقَرِيبِ وَتُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ كَمَا فِي
النسائي
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ
} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ
أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا : وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ
} . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَذَكَرَ
مَالِكٌ
فِي مُوَطَّئِهِ
أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
كَانَ يَأْتِي فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا
أَبَا بَكْرٍ
السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ
. وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ . رَوَاهُ
مَعْمَرٌ
عَنْ
نَافِعٍ
عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ
مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ ; إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أَثَرُ
ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الْوُقُوفِ لِلدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَرِهَهُ
مَالِكٌ
وَقَالَ : هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا
السَّلَفُ
. وَلَنْ يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ
مَالِكٍ
وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . قَرْنِ
الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ
وَتَابِعِيهِمْ . فَأَمَّا هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا ظَاهِرًا فِيهَا وَلَكِنْ بَعْدَهَا ظَهَرَ الْإِفْكُ وَالشِّرْكُ . وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ سَائِلٌ
لِمَالِكِ
عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إنْ كَانَ أَرَادَ الْمَسْجِدَ فَلْيَأْتِهِ وَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَفْعَلْ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ {
لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ
} . وَكَذَلِكَ مَنْ يَزُورُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِيَدْعُوَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ أَوْ يَقْصِدَ الدُّعَاءَ عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إجَابَةً فِي ظَنِّهِ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ عَلَى عَهْدِ
مَالِكٍ
لَا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ
مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُطِيلَ الرَّجُلُ الْوُقُوفَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَقْصِدُ لَا السَّلَامَ عَلَيْهِ وَلَا الدُّعَاءَ لَهُ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دُعَاءَهُ وَطَلَبَ حَوَائِجِهِ مِنْهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَهُ فَيُؤْذِي الرَّسُولَ وَيُشْرِكُ بِاَللَّهِ وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ الْأَئِمَّةُ ; لَا الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يَرْوُونَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ زَارَنِي فِي مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي
} وَمِنْ قَوْلِهِ : {
مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ
} وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهَا . وَلَمْ يَرْوِهَا لَا أَهْلُ الصِّحَاحِ وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا
كَأَبِي داود
والنسائي
. لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَمَا قَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا . وَمَنْ زَارَهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ وَالْوَاحِدُ بَعْدَهُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ
أُحُدٍ
ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ . وَهُوَ إذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ مِثْلَ
الصَّحَابَةِ
فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلَهُمْ بِالنَّوَافِلِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَوْ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَكَرِهَ
مَالِكٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ هَذَا اللَّفْظَ .
لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَأْتِ بِهِ فِي قَبْرِهِ
. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ وُجُوهًا . وَرَخَّصَ غَيْرُهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ لِلْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ .
وَمَالِكٌ
يَسْتَحِبُّ مَا يَسْتَحِبُّهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّفَرِ إلَى
الْمَدِينَةِ
وَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ اتِّبَاعًا
لِابْنِ عُمَرَ
.
وَمَالِكٌ
مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى
التَّابِعِينَ
الَّذِينَ رَأَوْا
الصَّحَابَةَ
بِالْمَدِينَةِ
. وَلِهَذَا كَانَ يَسْتَحِبُّ اتِّبَاعَ
السَّلَفِ
فِي ذَلِكَ . وَيَكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ أَحَدٌ هُنَاكَ بِدْعَةً . فَكَرِهَ أَنْ يُطِيلَ الرَّجُلُ الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ
الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ : وَكَرِهَ
مَالِكٌ
لِأَهْلِ
الْمَدِينَة
كُلَّمَا دَخَلَ إنْسَانٌ الْمَسْجِدَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ
السَّلَفَ
لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . قَالَ
مَالِكٌ
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : وَلَنْ يُصْلِحَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ إلَى مَسْجِدِهِ فَيُصَلُّونَ فِيهِ خَلْفَ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ صَلَّوْا أَئِمَّةً فِي مَسْجِدِهِ وَالْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُمْ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ . ثُمَّ إذَا قَضَوْا الصَّلَاةَ قَعَدُوا أَوْ خَرَجُوا . وَلَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَ الْقَبْرَ لِلسَّلَامِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهِيَ الْمَشْرُوعَةُ . وَأَمَّا دُخُولُهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ لِلصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَوْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ بَلْ نَهَاهُمْ وَقَالَ : {
لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ ; فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي
} فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ . وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا . وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مَرَّةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ . وَتَخْصِيصُ الْحُجْرَةِ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ جَعَلَ لَهَا عِيدًا وَهُوَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ أَوْ قَبْرَ غَيْرِهِ مَسْجِدًا . وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنْ اللَّعْنَةِ . وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ وَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِسُنَّتِهِ وَأَطْوَعُ الْأُمَّةِ لِأَمْرِهِ . وَكَانُوا إذَا دَخَلُوا إلَى مَسْجِدِهِ لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَبْرِهِ لَا مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا مِنْ خَارِجِهَا . وَكَانَتْ الْحُجْرَةُ فِي زَمَانِهِمْ يُدْخَلُ إلَيْهَا مِنْ الْبَابِ إذْ كَانَتْ
عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهَا . وَبَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ بُنِيَ الْحَائِطُ الْآخَرُ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى قَبْرِهِ لَا يَدْخُلُونَ إلَيْهِ ; لَا لِسَلَامِ وَلَا لِصَلَاةِ عَلَيْهِ وَلَا لِدُعَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِسُؤَالِ عَنْ حَدِيثٍ أَوْ عِلْمٍ وَلَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَطْمَعُ فِيهِمْ حَتَّى يُسْمِعَهُمْ كَلَامًا أَوْ سَلَامًا فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ هُوَ كَلَّمَهُمْ وَأَفْتَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَحَادِيثَ أَوْ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامَ بِصَوْتِ يُسْمَعُ مِنْ خَارِجٍ كَمَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ فِي غَيْرِهِمْ فَأَضَلَّهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ : حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ يُحَدِّثُهُمْ وَيُفْتِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَبْرِ وَيَرَوْنَهُ خَارِجًا مِنْ الْقَبْرِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ نَفْسَ أَبْدَانِ الْمَوْتَى خَرَجَتْ مِنْ الْقَبْرِ تُكَلِّمُهُمْ وَأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ تَجَسَّدَتْ لَهُمْ فَرَأَوْهَا كَمَا رَآهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا . فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . وَهُمْ تَلَقَّوْا الدِّينَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا وَاسِطَةٍ . فَفَهِمُوا مِنْ مَقَاصِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَايَنُوا مِنْ أَفْعَالِهِ وَسَمِعُوا مِنْهُ شِفَاهًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَفِيدُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُمْ قَدْ فَارَقُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَادَوْهُمْ وَهَجَرُوا جَمِيعَ الطَّوَائِفِ وَأَدْيَانَهُمْ وَجَاهَدُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : {
لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ
أُحُدٍ
ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ
} . وَهَذَا قَالَهُ
لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
لَمَّا تَشَاجَرَ هُوَ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
لِأَنَّ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ
كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا وَهُوَ فَتْحُ
الْحُدَيْبِيَةِ
وَخَالِدُ
هُوَ
وَعَمْرُو بْنُ العاص
وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ
أَسْلَمُوا فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَعْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ
وَقَبْلَ فَتْحِ
مَكَّةَ
فَكَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ التَّابِعِينَ لَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ فَتْحِ
مَكَّةَ
فَلَيْسُوا بِمُهَاجِرِينَ فَإِنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ بَلْ كَانَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ
يُقَالُ لَهُمْ الطُّلَقَاءُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً كَمَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ . وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ هُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ
مُهَاجِرَةِ
الْحَبَشَةِ
هَمّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ
وَفِي الصَّحِيحِ {
عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ
: أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ
} . وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُمْ مَنْ الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ مَا نَالَهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَعْمَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ قَدْ تُنْكَرُ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ :
كَالْخَوَارِجِ
وَالرَّوَافِضِ
وَالْقَدَرِيَّةِ
وَالْمُرْجِئَةِ
والجهمية
. بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا حَدَثُوا فِيمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ وَيَقُولَ : أَنَا
الْخَضِرُ
أَوْ أَنَا
إبْرَاهِيمُ
أَوْ
مُوسَى
أَوْ
عِيسَى
أَوْ
الْمَسِيحُ
أَوْ أَنْ يُكَلِّمَهُ عِنْدَ قَبْرٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ كَلَّمَهُ ; بَلْ هَذَا إنَّمَا نَالَهُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ . وَنَالَهُ أَيْضًا مِنْ
النَّصَارَى
حَيْثُ أَتَاهُمْ بَعْدَ الصَّلْبِ وَقَالَ : أَنَا هُوَ
الْمَسِيحُ
وَهَذِهِ مَوَاضِعُ الْمَسَامِيرِ - وَلَا يَقُولُ : أَنَا شَيْطَانٌ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُونُ جَسَدًا - أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ
النَّصَارَى
فِي أَنَّهُ صُلِبَ ; لَا فِي مُشَاهَدَتِهِ ; فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُشَاهِدْ الصَّلْبَ وَإِنَّمَا حَضَرَهُ بَعْضُ
الْيَهُودِ
وَعَلِمُوا الْمَصْلُوبَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ
الْمَسِيحُ
. وَلِهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَلَبُوهُ . لَكِنَّهُمْ قَصَدُوا هَذَا الْفِعْلَ وَفَرِحُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى : {
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا
} {
وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا
} {
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ
} . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ
الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ كَمَا أَضَلَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ جَهِلُوا السُّنَّةَ أَوْ رَأَوْا وَسَمِعُوا أُمُورًا مِنْ الْخَوَارِقِ فَظَنُّوهَا مِنْ جِنْسِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَكَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ . كَمَا أَضَلَّ
النَّصَارَى
وَأَهْلَ الْبِدَعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . فَهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ . وَكَذَلِكَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ فَيَسْمَعُ وَيَرَى أُمُورًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَحْمَانِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانِيٌّ وَيَدَعُونَ الْبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي لَا إجْمَالَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ وَيُغِيثَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِهِ . أَوْ أَنْ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَهُ . لِأَنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا شِرْكٌ لَا يَحِلُّ . وَلِهَذَا أَيْضًا لَمْ يَطْمَعْ فِيهِمْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ : إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَتَعَالَوْا إلَى قَبْرِي وَاسْتُغِيثُوا بِي لَا فِي مَحْيَاهُ وَلَا فِي مَمَاتِهِ كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَلَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ وَيَقُولَ : أَنَا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ الْأَوْتَادِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ السَّبْعَةِ أَوْ الْأَرْبَعِينَ . أَوْ يَقُولَ لَهُ : أَنْتَ مِنْهُمْ . إذْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَلَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ فَيَقُولَ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ يُخَاطِبَهُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ وَعِنْدَ غَيْرِ الْقُبُورِ . كَمَا يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَرَوْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ . فَأَهْلُ الْهِنْدِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ .
وَالنَّصَارَى
يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . وَالضُّلَّالُ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ : إمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُخَاطِبُونَهُ . وَقَدْ يَسْتَفْتُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَحَادِيثَ فَيُجِيبُهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ الْحُجْرَةَ قَدْ انْشَقَّتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَقَهُ هُوَ وَصَاحِبَاهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّه�