وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا غِيبَةَ لِفَاسِقِ } وَمَا حَدُّ الْفِسْقِ ؟ وَرَجُلٌ شَاجَرَ رَجُلَيْنِ : أَحَدُهُمَا شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ جَلِيسٌ فِي الشُّرْبِ أَوْ آكِلُ حَرَامٍ أَوْ حَاضِرُ الرَّقْصِ أَوْ السَّمَاعِ لِلدُّفِّ أَوْ الشَّبَّابَةِ : فَهَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إثْمٌ ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ ؟ اُذْكُرُوا بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ } . وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ مِثْلَ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْبِدَعَ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ { أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَتَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } فَمَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ وَأَنْ يُهْجَرَ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ . بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَنْبِهِ مُسْتَخْفِيًا فَإِنَّ هَذَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ ; لَكِنْ يُنْصَحُ سِرًّا وَيَهْجُرُهُ مَنْ عَرَفَ حَالَهُ حَتَّى يَتُوبَ وَيَذْكُرُ أَمْرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ . النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يُسْتَشَارَ الرَّجُلُ فِي مُنَاكَحَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ أَوْ اسْتِشْهَادِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ; فَيَنْصَحُهُ مُسْتَشَارُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ : قَدْ خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهَا : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الْخَاطِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ . فَهَذَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ : أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ النُّصْحِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَ الْمَرْأَةَ فِي دُنْيَاهَا فَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَقَدْ عَاشَرَهُ مَنْ يَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ دِينَهُ : بَيَّنَ أَمْرَهُ لَهُ لِتُتَّقَى مُعَاشَرَتُهُ . وَإِذَا كَانَ مُبْتَدِعًا يَدْعُو إلَى عَقَائِدَ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يَسْلُكُ طَرِيقًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُخَافُ أَنْ يُضِلَّ الرَّجُلُ النَّاسَ بِذَلِكَ : بَيَّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ لِيَتَّقُوا ضَلَالَهُ وَيَعْلَمُوا حَالَهُ . وَهَذَا كُلُّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِهَوَى الشَّخْصِ مَعَ الْإِنْسَانِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ تَحَاسُدٌ أَوْ تَبَاغُضٌ أَوْ تَنَازُعٌ عَلَى الرِّئَاسَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَسَاوِئِهِ مُظْهِرًا لِلنُّصْحِ وَقَصْدُهُ فِي الْبَاطِنِ الْغَضُّ مِنْ الشَّخْصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ فَهَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } بَلْ يَكُونُ النَّاصِحُ قَصْدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنْ يَكْفِيَ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَيَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ الطُّرُقِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } وَرُفِعَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا . فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } ؟ بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ لَمْ يَجُزْ حُضُورُهَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَمَنْ حَضَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ بُغْضِ إنْكَارِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْخَمْرِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ هُوَ شَرِيكُ الْفُسَّاقِ فِي فِسْقِهِمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ .