مسألة سابقة
متن:
وَقَالَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَد ابْنِ تيمية إلَى سرجوان عَظِيمِ أَهْلِ مِلَّتِهِ وَمَنْ تَحُوطُ بِهِ عِنَايَتُهُ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَعُظَمَاءِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَأَتْبَاعِهِمْ . سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ . وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ . وَيَخُصُّ بِصَلَاتِهِ وَسَلَامِهِ أُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ هُمْ سَادَةُ الْخَلْقِ وَقَادَةُ الْأُمَمِ . الَّذِينَ خُصُّوا بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَهُمْ : نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ . كَمَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا } وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَخُصَّ بِشَرَائِفِ صَلَاتِهِ وَسَلَامِهِ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ وَخَطِيبَهُمْ إذَا وَفَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَإِمَامَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا شَفِيعَ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيَّ الْمَلْحَمَةِ الْجَامِعَ مَحَاسِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إلَى الصِّدِّيقَةِ الطَّاهِرَةِ الْبَتُولِ الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ قَطُّ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ " ذَلِكَ مَسِيحُ الْهُدَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْوَجِيهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمُقَرَّبُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْجَمَالِ وَالرَّحْمَةِ لَمَّا أَنْجَرَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ مُوسَى مِنْ نَعْتِ الْجَلَالِ وَالشِّدَّةِ - وَبَعَثَ الْخَاتَمَ الْجَامِعَ بِنَعْتِ الْكَمَالِ ; الْمُشْتَمِلَ عَلَى الشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَالْمُحْتَوِيَ عَلَى مَحَاسِنِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ . وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَأَظْهَرَ فِيهِمْ آثَارَ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَجَعَلَ الْمَقْصُودَ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ عِبَادَتُهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ . فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ آتَاهُ رَحْمَةً وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَرَزَقَهُ الْإِنَابَةَ إلَيْهِ وَالْوَجَلَ لِذِكْرِهِ وَالْخُشُوعَ لَهُ وَالتَّأَلُّهَ لَهُ : فَحَنَّ إلَيْهِ حَنِينَ النُّسُورِ إلَى أَوْكَارِهَا . وَكُلِّفَ بِحُبِّهِ تَكَلُّفَ الصَّبِيِّ بِأُمِّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَمَحَبَّةً وَأَخْلَصَ دِينَهُ لِمَنْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ لَهُ رَبِّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . خَالِقِ مَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي أَمَرَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ . لَمْ يَتَّخِذْ مَنْ دُونِهِ أَنْدَادًا كَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَمْ يُشْرِكْ بِرَبِّهِ أَحَدًا وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا ; لَا مَلِكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا صَدِيقًا ; فَإِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا . فَهُنَالِكَ اجْتَبَاهُ مَوْلَاهُ وَاصْطَفَاهُ وَآتَاهُ رُشْدَهُ . وَهَدَاهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ; فَإِنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَعْدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُمْ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ - بِدْعَةً مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ - لَمْ يَنْزِلْ اللَّهُ بِهَا كِتَابًا وَلَا أَرْسَلَ بِهَا رَسُولًا ; بِشُبُهَاتٍ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ مِنْ جِهَةِ الْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ . وَالْفَلْسَفَةِ الْحَائِدَةِ . قَوْمٌ مِنْهُمْ زَعَمُوا أَنَّ التَّمَاثِيلَ طَلَاسِمُ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالدَّرَجَاتُ الْفَلَكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحُ الْعُلْوِيَّةِ . وَقَوْمٌ اتَّخَذُوهَا عَلَى صُورَةِ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَقَوْمٌ جَعَلُوهَا لِأَجْلِ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ . وَقَوْمٌ عَلَى مَذَاهِبَ أُخَرَ . وَأَكْثَرُهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ مُقَلِّدُونَ وَعَنْ سَبِيلِ الْهُدَى نَاكِبُونَ . فَابْتَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ ; وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى وَيَتَّخِذُوهُمْ شُفَعَاءَ . فَمَكَثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًّا فَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ دَعَا عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ وَجَاءَتْ الرُّسُلُ بَعْدَهُ تَتْرَى . إلَى أَنْ عَمَّ الْأَرْضَ دِينُ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ ; لَمَّا كَانَتْ النماردة وَالْفَرَاعِنَةُ مُلُوكَ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا . فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إمَامَ الْحُنَفَاءِ وَأَسَاسَ الْمِلَّةِ الْخَالِصَةِ وَالْكَلِمَةِ الْبَاقِيَةِ : إبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ . فَدَعَا الْخَلْقَ مِنْ الشِّرْكِ إلَى الْإِخْلَاصِ . وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَقَالَ : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ لِقَوْمِهِ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ مَعَهُ لِقَوْمِهِمْ : { إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . فَجَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ خَصَائِصَ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . وَآتَى كُلًّا مِنْهُمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ . فَجَعَلَ لِمُوسَى الْعَصَا حَيَّةً حَتَّى ابْتَلَعَتْ مَا صَنَعَتْ السَّحَرَةُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَكَانَتْ شَيْئًا كَثِيرًا وَفَلَقَ لَهُ الْبَحْرَ حَتَّى صَارَ يَابِسًا وَالْمَاءُ وَاقِفًا حَاجِزًا بَيْنَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْقَمْلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ وَظَلَّلَ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ الْغَمَامَ الْأَبْيَضَ يَسِيرُ مَعَهُمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَإِذَا عَطِشُوا ضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ . وَبَعَثَ بَعْدَهُ أَنْبِيَاءَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : مِنْهُمْ مَنْ أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدِهِ الْمَوْتَى . وَمِنْهُمْ مَنْ شَفَى اللَّهُ عَلَى يَدِهِ الْمَرْضَى . وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَعَهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ سَخَّرَ لَهُ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَهُ بِأَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ وَفِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالنُّبُوَّاتِ الَّتِي عِنْدَهُمْ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِثْلَ شعياء وأرمياء وَدَانْيَالَ وحبقوق وداود وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ وَكِتَابِ " سِفْرِ الْمُلُوكِ " وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ : مَا فِيهِ مُعْتَبَرٌ . وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ أُمَّةً قَاسِيَةً عَاصِيَةً : تَارَةً يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ . وَتَارَةً يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَتَارَةً يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ . فَلُعِنُوا أَوَّلًا عَلَى لِسَانِ داود ; وَكَانَ مِنْ خُرَّابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهِمْ . ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولًا قَدْ خَلَتْ مَنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَجَعَلَهُ وَأَمَّهُ آيَةً لِلنَّاسِ ; حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ; إظْهَارًا لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَشُمُولِ كَلِمَتِهِ حَيْثُ قَسَمَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ الْأَقْسَامَ الْأَرْبِعَةَ . فَجَعَلَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى . وَخَلَقَ زَوْجَهُ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى . وَخَلَقَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ . وَخَلَقَ سَائِرَهُمْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَآتَى عَبْدَهُ الْمَسِيحَ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّتُهُ : فَأَحْيَا الْمَوْتَى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَنْبَأَ النَّاسَ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَدَعَا إلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ مُتَّبَعًا سُنَّةَ إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ مُصَدِّقًا لِمَنْ قَبْلَهُ وَمُبَشِّرًا بِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ . وَكَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ عَتَوْا وَتَمَرَّدُوا وَكَانَ غَالِبُ أَمْرِهِ اللِّينَ وَالرَّحْمَةَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ وَجَعَلَ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَجَعَلَ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا . فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ : قَوْمٌ كَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ بَغْيٍ وَرَمَوْا أُمَّهُ بِالْفِرْيَةِ وَنَسَبُوهُ إلَى يُوسُفَ النَّجَّارِ وَزَعَمُوا أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْ مَا شَرَعَهُ بَعْدَ مَا فَعَلُوهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ فِي النَّجَاسَاتِ وَالْمَطَاعِمِ . وَقَوْمٌ غَلَوْا فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ اللَّهُ أَوْ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّاهُوتَ تَدَرَّعَ النَّاسُوتُ وَأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ وَأَنْزَلَ ابْنَهُ لِيُصْلَبَ وَيُقْتَلَ ; فِدَاءً لِخَطِيئَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلُوا الْإِلَهَ الْأَحَدَ الصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . قَدْ وَلَدَ وَاِتَّخَذَ وَلَدًا ; وَأَنَّهُ إلَهٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ [ وَ ] هِيَ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتُ الْبَشَرِيُّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُمْكِنُ انْفِصَالُهُ عَنْ الْآخَرِينَ ; إلَّا إذَا جَعَلُوهُ ثَلَاثَةَ إلَهَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ . وَذَلِكَ مَا لَا يَقُولُونَهُ . وَتَفَرَّقُوا فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ تَفَرُّقًا وَتَشَتَّتُوا تَشَتُّتًا ; لَا يُقِرُّ بِهِ عَاقِلٌ . وَلَمْ يَجِئْ نَقْلٌ إلَّا كَلِمَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكُتُبِ قَدْ بَيَّنَتْهَا كَلِمَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَمَا قَبْلَهُ كُلُّهَا تَنْطِقُ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ وَعِبَادَتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } كَانَ أَمْرُ الدِّينِ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَالْإِقْرَارَ بِرُسُلِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّابِئُونَ وَالْمُشْرِكُونَ كالبراهمة وَنَحْوِهِمْ مِنْ مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ مُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فِي إقْرَارِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ وَفَاسِدِي الِاعْتِقَادِ فِي رُسُلِهِ . فَأَرْبَابُ التَّثْلِيثِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِاتِّحَادِ فِي الرِّسَالَةِ قَدْ دَخَلَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ مِنْ الْفَسَادِ مَا هُوَ بَيِّنٌ بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَبِكُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ رُؤَسَائِهِمْ - مِنْ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ الْبَطَارِقَةِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ - إذَا صَارَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَاضِلًا مُمَيَّزًا فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ دِينِهِ وَيَصِيرُ مُنَافِقًا لِمُلُوكِ أَهْلِ دِينِهِ وَعَامَّتِهِمْ رَضِيَ بِالرِّيَاسَةِ عَلَيْهِمْ وَبِمَا يَنَالُهُ مِنْ الْحُظُوظِ ; كَاَلَّذِي كَانَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ " ابْنُ الْبُورِيِّ وَاَلَّذِي كَانَ بِدِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَا " ابْنُ الْقُفِّ وَاَلَّذِي بقسطنطينية وَهُوَ " الْبَابَا " عِنْدَهُمْ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ الْبَابَاوَاتِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ لَمَّا خَاطَبَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ أَقَرُّوا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى عَقِيدَةِ النَّصَارَى ; وَإِنَّمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعَادَةِ وَالرِّيَاسَةِ كَبَقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ عَلَى مُلْكِهِمْ وَغِنَاهُمْ وَلِهَذَا تَجِدُ غَالِبَ فُضَلَائِهِمْ إنَّمَا هِمَّةُ أَحَدِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ . كَالْمَنْطِقِ وَالْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ وَالنُّجُومِ ; أَوْ الطَّبِيعِيِّ كَالطِّبِّ وَمَعْرِفَةِ الْأَرْكَانِ أَوْ التَّكَلُّمِ فِي الْإِلَهِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نَبَذُوا دِينَ الْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَحَفِظُوا رُسُومَ الدِّينِ لِأَجْلِ الْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ . وَأَمَّا الرُّهْبَانُ فَأَحْدَثُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ بِالْعَامَّةِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ عَاقِلٍ ; حَتَّى صَنَّفَ الْفُضَلَاءُ فِي حِيَلِ الرُّهْبَانِ كُتُبًا : مِثْلَ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ تُصْنَعُ بِقُمَامَةِ . يَدْهُنُونَ خَيْطًا دَقِيقًا بسندروس وَيُلْقُونَ النَّارَ عَلَيْهِ بِسُرْعَةِ فَتَنْزِلُ . فَيَعْتَقِدُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ وَيَأْخُذُونَهَا إلَى الْبَحْرِ وَهِيَ صَنْعَةُ ذَلِكَ الرَّاهِبِ يَرَاهُ النَّاسُ عِيَانًا وَقَدْ اعْتَرَفَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ يَصْنَعُونَهَا . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ . وَقَدْ يَظُنُّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ مَا يُنْقَلُ عَنْ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ مِنْ جِنْسِ النَّارِ الْمَصْنُوعَةِ . وَكَذَلِكَ حِيَلُهُمْ فِي تَعْلِيقِ الصَّلِيبِ وَفِي بُكَاءِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي يُصَوِّرُونَهَا عَلَى صُورَةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ : كُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ إفْكٌ مُفْتَرًى وَأَنَّ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ بُرَآءُ مِنْ كُلِّ زُورٍ وَبَاطِلٍ وَإِفْكٍ كَبَرَاءَتِهِمْ مِنْ سِحْرِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ عَمِدُوا إلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا فَنَاقَضُوا الْأَوَّلِينَ مِنْ الْيَهُودِ فِيهَا ; مَعَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ ; إلَّا مَا نَسَخَهُ الْمَسِيحُ . قَصَرَ هَؤُلَاءِ فِي الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ . وَغَلَا هَؤُلَاءِ فِيهِمْ حَتَّى عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا تَمَاثِيلَهُمْ . وَقَالَ أُولَئِكَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَمَرَ بِهِ فَيَفْسَخُهُ ; لَا فِي وَقْتٍ آخَرَ وَلَا عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : بَلْ الْأَحْبَارُ وَالْقِسِّيسُونَ يُغَيِّرُونَ مَا شَاءُوا وَيُحَرِّمُونَ مَا رَأَوْا وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَضَعُوا عَلَيْهِ مَا رَأَوْا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَفَرُوا لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْفُخُ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ فَيَجْعَلُ الْبَخُورَ قُرْبَانًا . وَقَالَ أُولَئِكَ : حَرَّمَ عَلَيْنَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَا بَيْنَ الْبَقَّةِ وَالْفِيلِ حَلَالٌ : كُلْ مَا شِئْت وَدَعْ مَا شِئْت . وَقَالَ أُولَئِكَ : النَّجَاسَاتُ مُغَلَّظَةٌ ; حَتَّى إنَّ الْحَائِضَ لَا يُقْعَدُ مَعَهَا وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا عَلَيْك شَيْءٌ نَجِسٌ وَلَا يَأْمُرُونَ بِخِتَانِ وَلَا غُسْلٍ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَا إزَالَةِ نَجَاسَةٍ ; مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَالْحَوَارِيِّينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ . ثُمَّ إنَّ الصَّلَاةَ إلَى الْمَشْرِقِ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْمَسِيحُ وَلَا الْحَوَارِيُّونَ ; وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهَا قُسْطَنْطِينَ أَوْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الصَّلِيبُ إنَّمَا ابْتَدَعَهُ قُسْطَنْطِينُ بِرَأْيِهِ وَبِمَنَامِ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ . وَأَمَّا الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ فَلَمْ يَأْمُرُوا بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . وَالدِّينُ الَّذِي يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهِ إلَى اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ ; وَإِلَّا فَالْبِدَعُ كُلُّهَا ضَلَالَةٌ وَمَا عُبِدَتْ الْأَوْثَانُ إلَّا بِالْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ إدْخَالُ الْأَلْحَانِ فِي الصَّلَوَاتِ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْمَسِيحُ وَلَا الْحَوَارِيُّونَ . وَبِالْجُمْلَةِ فَعَامَّةُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْيَادِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا لَمْ يُنْزِلْ بِهَا اللَّهُ كِتَابًا وَلَا بَعَثَ بِهَا رَسُولًا ; لَكِنَّ فِيهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَهَذَا مِنْ دِينِ اللَّهِ ; بِخِلَافِ الْأَوَّلِينَ ; فَإِنَّ فِيهِمْ قَسْوَةً وَمَقْتًا وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ الْأَوَّلُونَ لَهُمْ تَمْيِيزٌ وَعَقْلٌ مَعَ الْعِنَادِ وَالْكِبْرِ . وَالْآخَرُونَ فِيهِمْ ضَلَالٌ عَنْ الْحَقِّ وَجَهْلٌ بِطَرِيقِ اللَّهِ . ثُمَّ إنَّ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ تَفَرَّقَتَا أَحْزَابًا كَثِيرَةً فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي مَعْبُودِهِمْ وَرَسُولِهِمْ . هَذَا يَقُولُ : إنَّ جَوْهَرَ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا وَطَبِيعَةً وَاحِدَةً وَأُقْنُومًا وَاحِدًا . وَهُمْ الْيَعْقُوبِيَّةُ . وَهَذَا يَقُولُ : بَلْ هُمَا جَوْهَرَانِ وَطَبِيعَتَانِ وَأُقْنُومَانِ . وَهُمْ النسطورية . وَهَذَا يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُمْ الملكانية . وَقَدْ آمَنَ جَمَاعَاتٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَهَاجَرُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَنَّفُوا فِي كُتُبِ اللَّهِ مِنْ دَلَالَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَوَاضِعَ لَمْ يُدَبِّرُوهَا وَكَذَلِكَ الْحَوَارِيُّونَ . فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَبَعَثَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ دَاعِيًا إلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَطَهَّرَ الْأَرْضَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَنَزَّهَ الدِّينَ عَنْ الشِّرْكِ : دِقَّهُ وَجُلَّهُ ; بَعْدَ مَا كَانَتْ الْأَصْنَامُ تُعْبَدُ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا فِي دَوْلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَدَوْلَةِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّا نَصَارَى . وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفَرْقَانِ . وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مِنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } . وَأَمَرَ اللَّهُ ذَلِكَ الرَّسُولَ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى تَوْحِيدِهِ بِالْعَدْلِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَأَمَرَهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاتَهُ وَحَجَّهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي بَنَاهُ خَلِيلُهُ إبْرَاهِيمُ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامُ الْحُنَفَاءِ . وَجَعَلَ أُمَّتَهُ وَسَطًا فَلَمْ يَغْلُوا فِي الْأَنْبِيَاءِ كَغُلُوِّ مَنْ عَدَلَهُمْ بِاَللَّهِ . وَجَعَلَ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَعَبَدَهُمْ وَجَعَلَهُمْ شُفَعَاءَ . وَلَمْ يَجْفُوا جَفَاءَ مَنْ آذَاهُمْ وَاسْتَخَفَّ بِحُرُمَاتِهِمْ وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَتِهِمْ ; بَلْ عَزَّرُوا الْأَنْبِيَاءَ - أَيْ عَظَّمُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ - وَآمَنُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ وَائْتَمُّوا بِهِمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ وَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ فَلَمْ يَتَّكِلُوا إلَّا عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَعِينُوا إلَّا بِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ . وَكَذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ . قَالُوا مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ أَطَعْنَاهُ وَمَا نَهَانَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا وَإِذَا نَهَانَا عَمَّا كَانَ أَحَلَّهُ - كَمَا نَهَى بَنِي إسْرَائِيلَ عَمَّا كَانَ أَبَاحَهُ لِيَعْقُوبَ - أَوْ أَبَاحَ لَنَا مَا كَانَ حَرَامًا - كَمَا أَبَاحَ الْمَسِيحُ بَعْضَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ - سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . وَأَمَّا غَيْرُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُبَدِّلُوا دِينَ اللَّهِ وَلَا يَبْتَدِعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَالرُّسُلُ إنَّمَا قَالُوا تَبْلِيغًا عَنْ اللَّهِ ; فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَكَمَا لَا يَخْلُقُ غَيْرُهُ لَا يَأْمُرُ غَيْرُهُ { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَتَوَسَّطَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ . وَفِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَفِي الْأَخْلَاقِ . وَلَمْ يُجَرِّدُوا الشِّدَّةَ كَمَا فَعَلَهُ الْأَوَّلُونَ وَلَمْ يُجَرِّدُوا الرَّأْفَةَ كَمَا فَعَلَهُ الْآخَرُونَ بَلْ عَامَلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالشِّدَّةِ وَعَامَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَقَالُوا فِي الْمَسِيحِ مَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا قَالَهُ الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ ; لَا مَا ابْتَدَعَهُ الْغَالُونَ وَالْجَافُونَ . وَقَدْ أَخْبَرَ الْحَوَارِيُّونَ عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّهُ يُبْعَثُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ وَأَنَّهُ يُبْعَثُ بِقَضِيبِ الْأَدَبِ وَهُوَ السَّيْفُ . وَأَخْبَرَ الْمَسِيحُ أَنَّهُ يَجِيءُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّأْوِيلِ . وَأَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ بِالْأَمْثَالِ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ . وَإِنَّمَا نَبَّهَ الدَّاعِي لِعَظِيمِ مِلَّتِهِ وَأَهْلِهِ لَمَّا بَلَغَنِي مَا عِنْدَهُ مِنْ الدِّيَانَةِ وَالْفَضْلِ وَمَحَبَّةِ الْعِلْمِ وَطَلَبِ الْمُذَاكَرَةِ وَرَأَيْت الشَّيْخَ أَبَا الْعَبَّاسِ المقدسي شَاكِرًا مِنْ الْمَلِكِ : مِنْ رِفْقِهِ وَلُطْفِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَشَاكِرًا مِنْ الْقِسِّيسِينَ وَنَحْوِهِمْ . وَنَحْنُ قَوْمٌ نُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَنُحِبُّ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; فَإِنَّ أَعْظَمَ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِهِ نَصِيحَةُ خَلْقِهِ وَبِذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَلَا نَصِيحَةَ أَعْظَمُ مِنْ النَّصِيحَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَلَا بُدَّ أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } . وَأَمَّا الدُّنْيَا فَأَمْرُهَا حَقِيرٌ وَكَبِيرُهَا صَغِيرٌ . وَغَايَةُ أَمْرِهَا يَعُودُ إلَى الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ . وَغَايَةُ ذِي الرِّيَاسَةِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي أَغْرَقَهُ اللَّهُ فِي الْيَمِّ انْتِقَامًا مِنْهُ . وَغَايَةُ ذِي الْمَالِ أَنْ يَكُونَ كقارون الَّذِي خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لَمَّا آذَى نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى . وَهَذِهِ وَصَايَا الْمَسِيحِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ كُلُّهَا تَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّجَرُّدِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الدُّنْيَا خَسِيسًا رَأَيْت أَنَّ أَعْظَمَ مَا يُهْدَى لِعَظِيمِ قَوْمِهِ الْمُفَاتَحَةُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ : بِالْمُذَاكَرَةِ فِيمَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ . وَالْكَلَامُ فِي الْفُرُوعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأُصُولِ . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يَكُونُ بِهَوَى النَّفْسِ وَلَا بِعَادَاتِ الْآبَاءِ وَأَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْعَاقِلُ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَفِي مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَيُعَامِلُ اللَّهَ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُظْهِرَ كُلَّ مَا فِي نَفْسِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ : فَيَنْتَفِعُ هُوَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ . وَإِنْ رَأَيْت مِنْ الْمُلْكِ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ كَاتَبْته وَجَاوَبْته عَنْ مَسَائِلَ يَسْأَلُهَا وَقَدْ كَانَ خَطَرَ لِي أَنْ أَجِيءَ إلَى قُبْرُصَ لِمَصَالِحَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ; لَكِنْ إذَا رَأَيْت مِنْ الْمَلِكِ مَا فِيهِ رِضَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَامَلْته بِمَا يَقْتَضِيهِ عَمَلُهُ ; فَإِنَّ الْمَلِكَ وَقَوْمَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ مُعْجِزَاتِ رُسُلِهِ عَامَّةً وَمُحَمَّدٍ خَاصَّةً : مَا أَيَّدَ بِهِ دِينَهُ وَأَذَلَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلَمَّا قَدِمَ مُقَدِّمُ الْمَغُولِ غازان وَأَتْبَاعُهُ إلَى دِمَشْقَ وَكَانَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ ; لَكِنْ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِمَا فَعَلُوهُ ; حَيْثُ لَمْ يَلْتَزِمُوا دِينَ اللَّهِ وَقَدْ اجْتَمَعَتْ بِهِ وَبِأُمَرَائِهِ وَجَرَى لِي مَعَهُمْ فُصُولٌ يَطُولُ شَرْحُهَا ; لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَلَغَتْ الْمَلِكَ ; فَأَذَلَّهُ اللَّهُ وَجُنُودَهُ لَنَا حَتَّى بَقِينَا نَضْرِبُهُمْ بِأَيْدِينَا وَنَصْرُخُ فِيهِمْ بِأَصْوَاتِنَا . وَكَأَنَّ مَعَهُمْ صَاحِبَ سَيَسَ مِثْلُ أَصْغَرِ غُلَامٍ يَكُونُ حَتَّى كَانَ بَعْضَ الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ مَعَنَا يَصْرُخُ عَلَيْهِ وَيَشْتُمُهُ وَهُوَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يُجَاوِبَهُ حَتَّى إنَّ وُزَرَاءَ غازان ذَكَرُوا مَا يَنُمُّ عَلَيْهِ مِنْ فَسَادِ النِّيَّةِ لَهُ وَكُنْت حَاضِرًا لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُكُمْ إلَى نَاحِيَةِ السَّاحِلِ وَأَخْبَرَنِي التَّتَارُ بِالْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَ صَاحِبُ سِيسَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فِيهِ حَيْثُ مَنَاكُمْ بِالْغُرُورِ وَكَانَ التَّتَارُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شَتِيمَةٍ لِصَاحِبِ سِيسَ وَإِهَانَةٍ لَهُ ; وَمَعَ هَذَا فَإِنَّا كُنَّا نُعَامِلُ أَهْلَ مِلَّتِكُمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ . وَقَدْ عَرَفَ النَّصَارَى كُلُّهُمْ أَنِّي لَمَّا خَاطَبْت التَّتَارَ فِي إطْلَاقِ الْأَسْرَى وَأَطْلَقَهُمْ غازان وقطلو شاه وَخَاطَبْت مَوْلَايَ فِيهِمْ فَسَمَحَ بِإِطْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ لِي : لَكِنَّ مَعَنَا نَصَارَى أَخَذْنَاهُمْ مِنْ الْقُدْسِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ . فَقُلْت لَهُ : بَلْ جَمِيعُ مَنْ مَعَك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِمَّتِنَا ; فَإِنَّا نُفْتِكَهُمْ وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَأَطْلَقْنَا مِنْ النَّصَارَى مَنْ شَاءَ اللَّهُ . فَهَذَا عَمَلُنَا وَإِحْسَانُنَا وَالْجَزَاءُ عَلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ السَّبْيُ الَّذِي بِأَيْدِينَا مِنْ النَّصَارَى يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ إحْسَانَنَا وَرَحْمَتَنَا وَرَأْفَتَنَا بِهِمْ ; كَمَا أَوْصَانَا خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ : { الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } . وَمَعَ خُضُوعِ التَّتَارِ لِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَانْتِسَابِهِمْ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ ; فَلَمْ نُخَادِعْهُمْ وَلَمْ نُنَافِقْهُمْ ; بَلْ بَيَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ الْمُوجِبِ لِجِهَادِهِمْ وَأَنَّ جُنُودَ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةَ وَعَسَاكِرَهُ الْمَنْصُورَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ بِالدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ : مَا زَالَتْ مَنْصُورَةٌ عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا . مُظَفَّرَةً عَلَى مَنْ عَادَاهَا . وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَمَّا شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ التَّتَارَ مُسْلِمُونَ أَمْسَكَ الْعَسْكَرَ عَنْ قِتَالِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِائَتَانِ . فَلَمَّا انْصَرَفَ الْعَسْكَرُ إلَى مِصْرَ وَبَلَغَهُ مَا عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ مِنْ الْفَسَادِ وَعَدَمِ الدِّينِ : خَرَجَتْ جُنُودُ اللَّهِ وَلِلْأَرْضِ مِنْهَا وَئِيدٌ قَدْ مَلَأَتْ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ ; فِي كَثْرَةٍ وَقُوَّةٍ وَعِدَّةٍ وَإِيمَانٍ وَصِدْقٍ . قَدْ بَهَرَتْ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ . مَحْفُوفَةٌ بِمَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّتِي مَا زَالَ يُمَدُّ بِهَا الْأُمَّةَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُخْلِصَةَ لِبَارِئِهَا : فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ بَيْنَ أَيْدِيهَا وَلَمْ يَقِفْ لِمُقَابَلَتِهَا . ثُمَّ أَقْبَلَ الْعَدُوُّ ثَانِيًا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَذَابِ مَا أَهْلَكَ النُّفُوسَ وَالْخَيْلَ وَانْصَرَفَ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ . وَهُوَ الْآنُ فِي الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ والتعكيس الْعَظِيمِ وَالْبَلَاءِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ . وَالْإِسْلَامُ فِي عِزٍّ مُتَزَايِدٍ وَخَيْرٍ مُتَرَافِدٍ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا } . وَهَذَا الدِّينُ فِي إقْبَالٍ وَتَجْدِيدٍ . وَأَنَا نَاصِحٌ لِلْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ - وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْفُرْقَانَ . وَيَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ وَفْدَ نجران - وَكَانُوا نَصَارَى كُلَّهُمْ فِيهِمْ الْأَسْقُفُ وَغَيْرُهُ - لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ : خَاطَبُوهُ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَنَاظَرُوهُ فَلَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ جَعَلُوا يُرَاوِغُونَ فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } . فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ استشوروا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا : تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَّهُ مَا بَاهَلَ أَحَدٌ نَبِيًّا فَأَفْلَحَ . فَأَدَّوْا إلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَدَخَلُوا فِي الذِّمَّةِ وَاسْتَعْفَوْا مِنْ الْمُبَاهَلَةِ . وَكَذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُ إلَى قَيْصَرَ الَّذِي كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى بِالشَّامِ وَالْبَحْرِ إلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَغَيْرِهَا وَكَانَ مَلِكًا فَاضِلًا . فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ وَسَأَلَ عَنْ عَلَامَتِهِ : عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ وَعَدَ اللَّهُ بِهِ إبْرَاهِيمَ فِي ابْنِهِ إسْمَاعِيلَ وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ النَّصَارَى إلَى مُتَابَعَتِهِ وَأَكْرَمَ كِتَابَهُ وَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَقَالَ : وَدِدْت أَنِّي أَخْلُصُ إلَيْهِ حَتَّى أَغْسِلَ عَنْ قَدَمَيْهِ وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنْ الْمُلْكِ لَذَهَبْت إلَيْهِ . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ النَّصْرَانِيُّ ; فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهِ : آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَبَعَثَ إلَيْهِ ابْنَهُ وَأَصْحَابَهُ مُهَاجِرِينَ . وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ . وَلَمَّا سَمِعَ سُورَةَ { كهيعص } بَكَى . وَلَمَّا أَخْبَرُو