تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَ " التَّعْزِيرُ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ " مَشْرُوعٌ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ; وَمَذْهَبِ أَحْمَد فِي مَوَاضِعَ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ ; وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ عَنْهُ . وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ إبَاحَتِهِ سَلَبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ } وَمِثْلِ أَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهِ وَمِثْلِ { أَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ ; وَقَالَ لَهُ : أَغْسِلُهُمَا ؟ قَالَ : لَا بَلْ احْرَقْهُمَا . } { وَأَمْرِهِ لَهُمْ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ . ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْإِرَاقَةِ أَذِنَ ; فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْقُدُورَ تَفُورُ بِلَحْمِ الْحُمُرِ أَمَرَ بِكَسْرِهَا وَإِرَاقَةِ مَا فِيهَا ; فَقَالُوا : أَفَلَا نُرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا ؟ فَقَالَ : افْعَلُوا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَةً . وَمِثْلَ هَدْمِهِ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ . وَمِثْلَ تَحْرِيقِ مُوسَى لِلْعِجْلِ الْمُتَّخَذِ إلَهًا { وَمِثْلَ تَضْعِيفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُرْمَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ } وَمِثْلَ مَا رُوِيَ مِنْ إحْرَاقِ مَتَاعِ الْغَالِّ وَمِنْ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ سَلَبَهُ لَمَّا اعْتَدَى عَلَى الْأَمِيرِ . وَمِثْلَ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَمِثْلَ أَخْذِ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَمِثْلَ تَحْرِيقِ . عُثْمَانَ بْنِ عفان الْمَصَاحِفَ الْمُخَالِفَةَ لِلْإِمَامِ ; وَتَحْرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِكُتُبِ الْأَوَائِلِ وَأَمْرِهِ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي بَنَاهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْتَجِبَ عَنْ النَّاسِ ; فَأَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ عَلَيْهِ ; فَذَهَبَ فَحَرَّقَهُ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ الْقَضَايَا كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ وَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذْهَبِهِمَا . وَمَنْ قَالَهُ مُطْلَقًا مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ : فَقَدْ قَالَ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ . وَلَمْ يَجِئْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ قَطُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَرَّمَ جَمِيعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ ; بَلْ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ . وَعَامَّةُ هَذِهِ الصُّوَرِ مَنْصُوصَةٌ عَنْ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَبَعْضُهَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِاعْتِبَارِ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْحَدِيثِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَدَنِيَّةِ : تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ ; وَإِلَى مَا يُخَالِفُهُ . وَلَيْسَتْ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ مَنْسُوخَةً عِنْدَهُمَا . وَالْمُدَّعُونَ لِلنُّسَخِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ بِالنَّسْخِ ; لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُخَالِفُ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ بِلَا حُجَّةٍ . إلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى النَّسْخِ ; وَإِذَا طُولِبَ بِالنَّاسِخِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ لِبَعْضِ النُّصُوصِ تُوهِمُهُ تَرْكَ الْعَمَلِ ; إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ طَائِفَتِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَا إجْمَاعٌ ; وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ; فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ إجْمَاعٌ عَلَى تَرْكِ نَصٍّ إلَّا وَقَدْ عُرِفَ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَدَّعِي نَسْخَ النُّصُوصِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ إذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ صَحِيحًا ; بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ نِزَاعًا ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَصْحَابِهِ وَلَكِنْ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : عِبَادَاتٌ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ . وَعُقُوبَاتٌ إمَّا مُقَدَّرَةٌ وَإِمَّا مُفَوَّضَةٌ وَكَفَّارَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاجِبَاتِ يَنْقَسِمُ إلَى : بَدَنِيٍّ . وَإِلَى مَالِيٍّ . وَإِلَى مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا . فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالْمَالِيَّةُ : كَالزَّكَاةِ . وَالْمُرَكَّبَةُ : كَالْحَجِّ . وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ : كَالْإِطْعَامِ . وَالْبَدَنِيَّةُ : كَالصِّيَامِ . وَالْمُرَكَّبَةُ : كَالْهَدْيِ بِذَبْحِ . وَالْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ : كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ . وَالْمَالِيَّةُ : كَإِتْلَافِ أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ . وَالْمُرَكَّبَةُ : كَجَلْدِ السَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ وَكَقَتْلِ الْكُفَّارِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ . وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا مَضَى كَقَطْعِ السَّارِقِ ; وَتَارَةً تَكُونُ دَفْعًا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَتْلِ الْقَاتِلِ : فَكَذَلِكَ الْمَالِيَّةُ ; فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ ; وَهِيَ تَنْقَسِمُ كَالْبَدَنِيَّةِ إلَى إتْلَافٍ ; وَإِلَى تَغْيِيرٍ ; وَإِلَى تَمْلِيكِ الْغَيْرِ . فَالْأَوَّلُ الْمُنْكَرَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ يَجُوزُ إتْلَافُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا ; مِثْلَ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; لَمَّا كَانَتْ صُوَرُهَا مُنْكَرَةً جَازَ إتْلَافُ مَادَّتِهَا ; فَإِذَا كَانَتْ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا . وَكَذَلِكَ آلَاتُ الْمَلَاهِي مِثْلَ الطُّنْبُورِ يَجُوزُ إتْلَافُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ; وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَمِثْلَ ذَلِكَ أَوْعِيَةُ الْخَمْرِ ; يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَخْرِيقُهَا ; وَالْحَانُوتُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاتَّبَعُوا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ حَانُوتٍ كَانَ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ لِرُوَيْشِدِ الثَّقَفِيِّ ; وَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَا رُوَيْشِدٌ . وَكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَرْيَةٍ كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ مِثْلُ الْأَوْعِيَةِ . وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; حَيْثُ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَابَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ فَأَرَاقَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِذَلِكَ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ ; وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى أَنْ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ } وَذَلِكَ بِخِلَافِ شَوْبِهِ لِلشُّرْبِ ; لِأَنَّهُ إذَا خُلِطَ لَمْ يَعْرِفْ الْمُشْتَرِي مِقْدَارَ اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ ; فَأَتْلَفَهُ عُمَرُ . وَنَظِيرُهُ مَا أَفْتَى بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي جَوَازِ إتْلَافِ الْمَغْشُوشَاتِ فِي الصِّنَاعَاتِ : مِثْلَ الثِّيَابِ الَّتِي نُسِجَتْ نَسْجًا رَدِيئًا إنَّهُ يَجُوزُ تَمْزِيقُهَا وَتَحْرِيقُهَا ; وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَزَّقَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَفْزَعْت الصَّبِيَّ فَقَالَ : لَا تَكْسُوهُمْ الْحَرِيرَ . كَذَلِكَ { تَحْرِيقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِثَوْبِهِ الْمُعَصْفَرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . } وَهَذَا كَمَا يُتْلِفُ مِنْ الْبَدَنِ الْمَحَلَّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ ; فَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ وَتُقْطَعُ رِجْلُ الْمُحَارِبِ وَيَدُهُ . وَكَذَلِكَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمُنْكَرُ فِي إتْلَافِهِ نُهِيَ عَنْ الْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمُنْكَرِ ; وَلَيْسَ إتْلَافُ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ; بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلِّ مَفْسَدَةٌ جَازَ إبْقَاؤُهُ أَيْضًا ; إمَّا لِلَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كَمَا أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنَّ الطَّعَامَ الْمَغْشُوشَ مِنْ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ وَالشِّوَاءِ كَالْخُبْزِ وَالطَّعَامِ الَّذِي لَمْ يَنْضَجْ وَكَالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ وَهُوَ : الَّذِي خُلِطَ بِالرَّدِيءِ وَأَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ جَيِّدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ : يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ إتْلَافِهِ . وَإِذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَتْلَفَ اللَّبَنَ الَّذِي شِيبَ لِلْبَيْعِ : فَلَأَنْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ وَزَجْرُهُ عَنْ الْعَوْدِ وَيَكُونُ انْتِفَاعُ الْفُقَرَاءِ بِذَلِكَ أَنْفَعَ مِنْ إتْلَافِهِ وَعُمَرُ أَتْلَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُغْنِي النَّاسَ بِالْعَطَاءِ ; فَكَانَ الْفُقَرَاءُ عِنْدَهُ فِي الْمَدِينَةِ إمَّا قَلِيلًا وَإِمَّا مَعْدُومِينَ . وَلِهَذَا جَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ التَّصَدُّقَ بِهِ وَكَرِهُوا إتْلَافَهُ . فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ أَدَبًا لِصَاحِبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ; وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ . وَهَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْيَسِيرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَقَالَ : لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا ; لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهُرُ عَنْهُ وَقَدْ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ ; وَفِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ وَلَا يهراق . قِيلَ لِمَالِكِ : فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ أَتَرَاهُ مِثْلُهُ ؟ قَالَ : مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ غِشُّهُ فَهُوَ كَاللَّبَنِ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : هَذَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا كَثُرَ مِنْهُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ ; وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ ; لِأَنَّهُ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ . يُرِيدُ فِي الصَّدَقَةِ بِكَثِيرِهِ . قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : وَسَوَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا ; لِأَنَّهُ سَاوَى فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ; وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ; فَلَمْ يَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَا كَانَ يَسِيرًا ; وَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ وَأَمَّا مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَغْشُوشٌ لَمْ يَغُشَّهُ هُوَ ; وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ وَرِثَهُ : فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . وَمِمَّنْ أَفْتَى بِجَوَازِ إتْلَافِ الْمَغْشُوشِ مِنْ الثِّيَابِ ابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ : تُحَرَّقُ بِالنَّارِ . وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ فِيهَا بِالتَّصَدُّقِ ; وَقَالَ : تُقْطَعُ خِرَقًا وَتُعْطَى لِلْمَسَاكِينِ إذَا تَقَدَّمَ إلَى مُسْتَعْمِلِيهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا . وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِإِعْطَاءِ الْخُبْزِ الْمَغْشُوشِ لِلْمَسَاكِينِ ; فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَقَالَ : لَا يَحِلُّ هَذَا فِي مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِذْنِهِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأُصْبُعِ : وَهَذَا اضْطِرَابٌ فِي جَوَابِهِ وَتَنَاقُضٌ فِي قَوْلِهِ ; لِأَنَّ جَوَابَهُ فِي الْمَلَاحِفِ بِإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ أَشَدُّ مِنْ إعْطَاءِ هَذَا الْخُبْزِ لِلْمَسَاكِينِ وَابْنُ عَتَّابٍ أَضْبَطُ فِي أَصْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَتْبَعُ لِقَوْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ عُقُوبَةَ الْغَاشِّ بِالصَّدَقَةِ أَوْ الْإِتْلَافِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْنَعَ وُصُولَ الضَّرَرِ إلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْغِشِّ إمَّا بِإِزَالَةِ الْغِشِّ ; وَإِمَّا بِبَيْعِ الْمَغْشُوشِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ وَلَا يَغُشُّهُ عَلَى غَيْرِهِ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ : قُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الماجشون لَمَّا نُهِينَا عَنْ التَّصَدُّقِ بِالْمَغْشُوشِ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ : فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ مِنْ الْوَزْنِ ؟ قَالَا : يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ ; وَمَا كَثُرَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ أَوْ غَشَّ مِنْ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ فَلَا يُفَرَّقُ وَلَا يُنْهَبُ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ : وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ إلَيْهِ وَلْيُؤْمَرْ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مَنْ يَأْمَنُ أَنْ يَغُشَّ بِهِ وَبِكَسْرِ الْخُبْزِ إذَا كَثُرَ وَيُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ هَكَذَا الْعَمَلُ فِيمَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ . قَالَ : وَهُوَ إيضَاحُ مَنْ اسْتَوْضَحْته ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ .