تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْجَانِّ الْمُؤْمِنِينَ : هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ " بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ " كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ ؟ أَوْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِنَفْسِ التَّصْدِيقِ لَا غَيْرُ ؟
1
فَأَجَابَ : لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَعْمَالِ زَائِدَةٍ عَلَى التَّصْدِيقِ وَمَنْهِيُّونَ عَنْ أَعْمَالٍ غَيْرِ التَّكْذِيبِ فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِحَسْبِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مُمَاثِلِي الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مُسَاوِيًا لِمَا عَلَى الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ لَكِنَّهُمْ مُشَارِكُونَ الْإِنْسَ فِي جِنْسِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ . وَهَذَا مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّونَ لِعَذَابِ النَّارِ كَمَا يَدْخُلُهَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ ; لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ ; فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : إلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ . وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الطبراني { أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي ربض الْجَنَّةِ . يَرَاهُمْ الْإِنْسُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ } . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ - إلَى أَنَّ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ وَيَكُونُ ثَوَابُهُمْ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ . وَهَلْ فِيهِمْ رُسُلٌ أَمْ لَيْسَ فِيهِمْ إلَّا نُذُرٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقِيلَ : فِيهِمْ رُسُلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } . وَقِيلَ : الرُّسُلُ مِنْ الْإِنْسِ ; وَالْجِنِّ فِيهِمْ النُّذُرُ وَهَذَا أَشْهَرُ ; فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ { وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } الْآيَةَ قَالُوا وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } كَقَوْلِهِ : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَالِحِ وَكَقَوْلِهِ { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } وَالْقَمَرَ فِي وَاحِدَةٍ . وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ : فَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْت مَعَهُ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَانْطَلَقُوا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ : لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِكُمْ أَوْفَرُ مَا يَكُونُ وَكُلُّ بَعْرَةِ عَلَفٍ لِدَوَابِّكُمْ ; فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ } وَذَلِكَ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ طَعَامَهُمْ وَعَلَفَهُمْ وَهُنَا يُبَيِّنُ أَنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } إلَى قَوْلِهِ . { إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فَأَخْبَرَ عَنْ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَلَيْسَ هُوَ هُنَا التَّصْدِيقَ . وَأَيْضًا فَإِبْلِيسُ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ . لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَتُهُ تَكْذِيبًا فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ رَسُولٌ يُكَذِّبُهُ وَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ عَاقَبَهُ اللَّهُ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ ; وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا سَجَدَ ابْنُ آدَمَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي } الْحَدِيثَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } إلَى قَوْلِهِ . { عَذَابِ السَّعِيرِ } وَقَدْ جَعَلَ فِي ذَلِكَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ سُلَيْمَانَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ إبْلِيسَ . إنَّهُ عَصَى وَلَمْ يَقُلْ كَذَّبَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى . عَنْ الْجِنِّ . { يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } إلَى قَوْلِهِ . { وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ . فَأُمِرُوا بِإِجَابَةِ دَاعِي اللَّهِ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ . وَالْإِجَابَةُ وَالِاسْتِجَابَةُ هِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الثَّقَلَانِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وَمَنْ قَالَ " إنَّ الْعِبَادَةَ " هِيَ الْمَعْرِفَةُ الْفِطْرِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ : فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الثَّقَلَيْنِ كَافِرٌ وَاَللَّهُ أَخْبَرَ بِكُفْرِ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنْهُ وَمِنْ أَتْبَاعِهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ اتَّبَعَهُ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا عَارِفِينَ اللَّهَ مَعْرِفَةً يَكُونُونَ بِهَا مُؤْمِنِينَ . وَلَكِنَّ اللَّامَ لِبَيَانِ الْجُمْلَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَوْلِهِ { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } الْآيَةَ . وَقَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْعَاقِبَةِ الْكَوْنِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } الْآيَةَ ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } أَيْ خَلَقَ قَوْمًا لِلِاخْتِلَافِ . وَقَوْمًا لِلرَّحْمَةِ وَقَالَ : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } فَاللَّامُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَإِنْ كَانَتْ هِيَ اللَّامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ مَدْلُولَهَا لَامُ إرَادَةِ الْفَاعِلِ وَمَقْصُودِهِ وَلِهَذَا تَنْقَسِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَى إرَادَةٍ دِينِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ كَوْنِيَّةٍ ; كَمَا تَنْقَسِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْكَلِمَاتُ وَالْأَمْرُ وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْإِذْنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعًا تَلَتْ عَلَيْهِمْ الرُّسُلُ آيَاتِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةً عَلَى الصَّحَابَةِ قَالَ " لَلْجِنُّ كَانُوا " الْحَدِيثَ . دَعَاهُمْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; لَا إلَى مُجَرَّدِ حَدِيثٍ لَا طَاعَةَ مَعَهُ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّصْدِيقِ كَانَ مَعَ إبْلِيسَ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا . وَالدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا فِي الْحَدِيثِ وَالْآثَارِ : مِنْ كَوْن الْجِنِّ يَحُجُّونَ وَيُصَلُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى الذَّنْبِ : كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } قَالُوا مَذَاهِبَ شَتَّى مُسْلِمِينَ وَيَهُودَ وَنَصَارَى وَشِيعَةً وَسُنَّةً . فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ الصَّالِحِينَ فَيَكُونُ : إمَّا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِمَّا عَاصِيًا فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ كَافِرًا وَلَا يَنْقَسِمُ مُؤْمِنٌ إلَى صَالِحٍ وَإِلَى غَيْرِ صَالِحٍ فَإِنَّ غَيْرَ الصَّالِحِ لَا يُعْتَقَدُ صَلَاحُهُ لِتَرْكِ الطَّاعَاتِ فَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ; وَدُونَ الصَّالِحِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فِي بَعْضِ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ قِسْمٌ غَيْرُ الْكَافِرِ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُوصَفُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .