تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ " عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَيْهِ ; وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ رَفَعَهُ إلَيْهِ حَيًّا . فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ . وَهَلْ رَفَعَهُ بِجَسَدِهِ أَوْ رُوحِهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وَهَذَا ؟ وَمَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى { إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } ؟
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيٌّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ } " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ " { أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ } " . وَمَنْ فَارَقَتْ رُوحُهُ جَسَدَهُ لَمْ يَنْزِلْ جَسَدُهُ مِنْ السَّمَاءِ وَإِذَا أُحْيِيَ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ الْمَوْتَ ; إذْ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَوْتَ لَكَانَ عِيسَى فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ وَيَعْرُجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَلَوْ كَانَ قَدْ فَارَقَتْ رُوحُهُ جَسَدَهُ لَكَانَ بَدَنُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَدَنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } فَقَوْلُهُ هُنَا : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } يُبَيِّنُ أَنَّهُ رَفَعَ بَدَنَهُ وَرُوحَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَنْزِلُ بَدَنُهُ وَرُوحُهُ ; إذْ لَوْ أُرِيدَ مَوْتُهُ لَقَالَ : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ; بَلْ مَاتَ . فَقَوْلُهُ : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } يُبَيِّنُ أَنَّهُ رَفَعَ بَدَنَهُ وَرُوحَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَنْزِلُ بَدَنُهُ وَرُوحُهُ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : { إنِّي مُتَوَفِّيكَ } أَيْ قَابِضُك أَيْ قَابِضُ رُوحِك وَبَدَنِك يُقَالُ : تَوَفَّيْت الْحِسَابَ وَاسْتَوْفَيْته وَلَفْظُ التَّوَفِّي لَا يَقْتَضِي نَفْسُهُ تَوَفِّيَ الرُّوحِ دُونَ الْبَدَنِ وَلَا تَوَفِّيَهُمَا جَمِيعًا إلَّا بِقَرِينَةٍ مُنْفَصِلَةٍ . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَوَفِّي النَّوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } وَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } وَقَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } وَقَدْ ذَكَرُوا فِي صِفَةِ تَوَفِّي الْمَسِيحِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .