تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ : الْعُقُودُ الَّتِي فِيهَا نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ - وَهِيَ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ بَنِي آدَمَ الَّتِي لَا يَقُومُونَ إلَّا بِهَا - سَوَاءٌ كَانَتْ مَالًا بِمَالِ . كَالْبَيْعِ أَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةً بِمَالٍ كَالْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ : الْإِمَارَةُ وَالتَّجْنِيدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ . أَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةً بِمَنْفَعَةٍ كَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : فَإِنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ . كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَرَامًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ كَبَيْعِ الْخَمْرِ بِالْخِنْزِيرِ وَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الزِّنَا بِالْخَمْرِ وَعَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا كَانَ بَعْضُ الْحُكَّامِ يَقُولُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الرُّؤَسَاءِ : يتقارضون شَهَادَةَ الزُّورِ وَشَبَهَهُ بِمُبَادَلَةِ الْقُرُوضِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ حَرَامًا مِنْ الْأُخْرَى . وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْلَمُوهُ ; فَإِنَّ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ بِهِ إلَّا دِينٌ ضَعِيفٌ . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَتَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا الْفَاجِرَةُ وَالدِّينُ الْمُبْتَدَعُ . وَأَمَّا الدِّينُ الْمَشْرُوعُ وَالدُّنْيَا السَّالِمَةُ فَلَا تَقُومُ إلَّا بِالثَّالِثِ : مِثْلَ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّتِهِمْ وَرِشْوَةِ الْوُلَاةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَوْ تَخْلِيصِ الْحَقِّ ; لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِعْطَاءِ مَنْ يُتَّقَى شَرُّ لِسَانِهِ أَوْ يَدِهِ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَإِعْطَاءِ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَعْوَانٍ وَأَنْصَارٍ وَوُلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ حَقًّا فِي الصَّدَقَاتِ الَّتِي حَصَرَ مَصَارِفَهَا فِي كِتَابِهِ وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ وَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ الْمَصَالِحِ - وَمِنْ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ - الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ مَصْرِفًا مِنْ الزَّكَاةِ ; فَإِنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ أُعْطِيَ مِنْ الْمَصَالِحِ وَلَا يَنْعَكِسُ ; لِأَنَّ آخِذَ الصَّدَقَةِ إمَّا أَنْ يَأْخُذَ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْهُمَا لِلْمَصَالِحِ ; بَلْ لَيْسَتْ الْمَصَالِحُ إلَّا ذَلِكَ وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَنْفَعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِمَالِ الْمَصَالِحِ وَالْفَيْءِ . وَلِهَذَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ كَمَا فَعَلَهُ بِالذُّهَيْبَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ . وَكَمَا فَعَلَ فِي مَغَانِمِ حنين حَيْثُ قَسَّمَهَا بَيْنَ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ . أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ وَأَكِلُ رِجَالًا إلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ } وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ : يَأْبُونَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَتُخْرِجُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ مَا لَمْ نَكُنْ نُرِيدُ أَنْ نُعْطِيَهُ إيَّاهُ فَيُبَارِكُ لَهُ فِيهِ } " أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ . وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : أَمَّا الْمَالُ بِالْأَعْيَانِ فَمِنْهُ افْتِكَاكُ الْأَسْرَى وَالْأَحْرَارِ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْغَاصِبِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ قَدْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَقَدْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفُجَّارُ ; إمَّا بِاسْتِعْبَادِهِ ظُلْمًا أَوْ بِعِتْقِهِ وَجُحُودِ عِتْقِهِ . وَإِمَّا بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا إذْنِ الشَّارِعِ : مِثْلَ مَنْ يُسَخِّرُ الصُّنَّاعَ كَالْخَيَّاطِينَ وَالْفَلَّاحِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَإِمَّا بِحَبْسِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا فَكُلُّ آدَمِيٍّ قَهَرَ آدَمِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنَعَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ . فَالْقَاهِرُ يُشْبِهُ الْآسِرَ وَالْمَقْهُورُ يُشْبِهُ الْأَسِيرَ وَكَذَلِكَ الْقَهْرُ بِحَقِّ أَسِيرٍ . قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَرِيمِ الَّذِي لَزِمَ غَرِيمَهُ : مَا فَعَلَ أَسِيرُك ؟ . } وَإِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَمْوَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ فَهُوَ غَصْبٌ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى النُّفُوسِ بِغَيْرِ حَقِّ أَسْرٍ . وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ اسْتِيلَاءُ الظَّلَمَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَكَذَلِكَ افْتِكَاكُ الْأَنْفُسِ الرَّقِيقَةِ مِنْ يَدِ مَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهَا وَيَظْلِمُهَا فَإِنَّ الرِّقَّ الْمَشْرُوعَ لَهُ حَدٌّ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ افْتِكَاكُ الزَّوْجَةِ مِنْ يَدِ الزَّوْجِ الظَّالِمِ ; فَإِنَّ النِّكَاحَ رِقٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّسَاءِ : { إنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ } . وَقَالَ عُمَرُ : النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يَرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَكَذَلِكَ افْتِكَاكُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ كَاَلَّذِي يَمْنَعُهُ الْوَاجِبُ وَيَفْعَلُ مَعَهُ الْمُحَرَّمَ . وَمِنْهُ افْتِكَاكُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي الْغَاصِبِينَ لَهَا ظُلْمًا أَوْ تَأْوِيلًا كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَغَيْرِهِمَا إذَا دُفِعَ لِلظَّالِمِ شَيْءٌ حَتَّى يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّفْعُ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ دَفْعًا لِلْقَاهِرِ حَتَّى لَا يَقْهَرَ وَلَا يَسْتَوْلِيَ كَمَا يُهَادَنُ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَالٍ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَوْ اسْتِنْقَاذًا مِنْ الْقَاهِرِ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ .