تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ عَنْ الْأَعْيَانِ الْمُضَمَّنَةِ مِنْ الْحَوَانِيتِ . كالشيرج وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا وَهِيَ أَنَّ إنْسَانًا يَضْمَنُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ غَيْرُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . فَيَقُولُ : عِنْدِي كَذَا وَكَذَا كُلَّ شَهْرٍ لِمَالِكِ حَانُوتٍ أَوْ خَانٍ أَوْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَ وَأَبِيعَ فِيهِ شَيْئًا لَا يَبِيعُهُ غَيْرِي أَوْ أَعْمَلُ كَذَا وَكَذَا - يَعْنِي شَيْئًا يَذْكُرُهُ - عَلَى أَنَّ غَيْرِي لَا يَعْمَلُ مِثْلَهُ . فَهَلْ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الَّتِي يَبِيعُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ مُشْتَرِي غَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْأَعْيَانِ بِاعْتِبَارِ مَشَقَّةٍ عِنْدَ تَحْصِيلِ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إلَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ أَمْ لَا ؟ .
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا مَعَ الْغِنَى عَنْ الِاشْتِرَاءِ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ ; فَإِنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِ غَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ فَمُجَانَبَتُهُ وَهَجْرُهُ أَوْلَى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ - لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ - فَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ . وَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ إذَا اشْتَرَى مَعَ إمْكَانِ الشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلَكِنْ مَعَ الْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ ; لَكِنْ إذَا مَنَعَ غَيْرَهُ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بَاعَهُمْ بِأَغْلَى مِنْ السِّعْرِ فَظَلَمَهُمْ . وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَضَعُهُ الظَّلَمَةُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْبَضَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَشْتَرُونَهُ مُكْرَهِينَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ ; وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَى الْبَائِعِ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ; لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا قَدْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ الْمُحَرَّمَةِ فَصَارَ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : مَنْ غَلَبَ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالُ جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ : فَهَلْ مُعَامَلَتُهُ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . ثُمَّ يُقَالُ : تِلْكَ الزِّيَادَاتُ لَيْسَ لَهَا مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُعْرَفُ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا إنَّمَا مَنَعْنَاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ ; لِئَلَّا يَظْلِمَ النَّاسَ فَلَوْ جَعَلْنَا مَا يَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنْهُ حَرَامًا لَكِنَّا قَدْ زِدْنَا الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ إذَا احْتَاجُوا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَاَلَّذِي اشْتَرَوْهُ حَرَامٌ وَهُمْ لَا يُطِيقُونَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ; بَلْ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا فَإِنَّ مَا اشْتَرَاهُ قَدْ أَعْطَاهُ عِوَضَهُ وَزِيَادَةً وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِوَضِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُعَيَّنًا مِنْهُمْ فَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ ظَلَمَ أُولَئِكَ جَمِيعَهُمْ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْهُ الَّذِي أَعْطَاهُ الْعِوَضَ وَزِيَادَةً فَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا . وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ مَالُهُ مُخْتَلِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَرَامًا ; فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِينَ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الَّتِي فِي يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِعَيْنِهَا الْمَظْلُومُونَ فَمُعَاوَضَتُهُ عَلَيْهَا جَائِزَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْمَظْلُومَ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَبِهَذَا أَفْتَى فِي مِثْلِ هَذَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا كَسَائِرِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ وَهُوَ ظَالِمٌ بِمَطْلِهِ لِلْغُرَمَاءِ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } . ثُمَّ مَعَ هَذَا إذَا عَاوَضَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ بِمُعَاوَضَةِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٍ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ تَبَرُّعًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ فَفِي نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ; لَكِنْ يُقَالُ هَذَا الظَّالِمُ لَمَّا أَخَذَ الزِّيَادَةَ وَاشْتَرَى بِهَا فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَظْلُومِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ ; بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي حَصَلَ بِرِضَا الْغَرِيمِ ; فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ مَالِ الْمَدِينِ . فَيُقَالُ : هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ : أَحَدُهَا : إنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَخَذَهَا زِيَادَةً بِغَيْرِ حَقٍّ هَلْ يَتَعَيَّنُ حَقُّ صَاحِبِهَا فِيهَا أَوْ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ . وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي الدَّرَاهِمِ هَلْ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ والقبوض حَتَّى فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ ؟ ؟ فَقِيلَ : تَتَعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقِيلَ : لَا تَتَعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ ابْنِ قَاسِمٍ . وَقِيلَ : تَتَعَيَّنُ فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ ; دُونَ الْعَقْدِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِذَا خُلِطَ الْمَغْصُوبُ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ كَمَا تُخْلَطُ الْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالْحُبُوبُ وَغَيْرُهَا فَهَلْ يَكُونُ الْخَلْطُ كَالْإِتْلَافِ حَيْثُ يَبْقَى حَقُّ الْمَظْلُومِ فِي الذِّمَّةِ فَيُعْطِيهِ الظَّالِمُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ ؟ أَوْ حَقُّهُ بَاقٍ فِي الْعَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِ الْخَلْطِ بِالْقِسْمَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ الزَّائِدَةَ لَيْسَتْ مُتَعَيِّنَة سَوَاءٌ اشْتَرَى مِنْهُ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مَنْفَعَةً ; فَإِنَّ الْمَظْلُومَ أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَيَّنًا وَلَوْ كَانَ مُتَعَيَّنًا ثُمَّ خَلَطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ التَّعْيِينِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا فِي الْأَصْلِ ؟ فَعَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ حَقُّهُ إلَّا فِي ذِمَّةِ الظَّالِمِ . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمُضَارِبَ وَالْمُودِعَ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِصَاحِبِ الْمَالِ حَقًّا فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ ; فَإِنَّ تَفْرِيطَ الْمُودَعِ حِينَ لَمْ يُمَيِّزْ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهَا مُوجِبٌ لِضَمَانِهِ ; لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْقَطُوا حَقَّ الْمَالِكِ مِنْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ فَلَمْ يُقَدِّمُوهُ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ; بَلْ جَعَلُوهُ غَرِيمًا مِنْ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ عَيْنُ مَالِهِ مُخْتَلِطًا . وَالظُّلْمُ يَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ . فَتَرْكُ الْمُودَعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّمْيِيزِ ظُلْمٌ مِنْهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ سُقُوطُ حَقِّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ - وَإِنْ كُنَّا لَا نَنْصُرُهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ مَأْخَذِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أُصُولِ الْعُلَمَاءِ ; وَلِهَذَا لَمَّا فَرَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فَرْعِهَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ . وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الظَّالِمَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَشْتَرِي فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يُنَفِّذُ عَيْنَ الْمَالِ وَفِي صِحَّةٍ مِثْلُ هَذَا قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ . الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِ الظَّالِمِ وَإِنْ فَاتَتْ الْعَيْنُ لِكَوْنِ هَذَا بَدَلُ مَالِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَزَعَهُ وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ الْمَظْلُومَ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِشَطْرِ حَقِّهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الْمَالِ وَيَكُونُ مَا يَزِيدُ مِنْ الْمَالِ مِنْ نَمَاءٍ وَرِبْحٍ وَغَيْرِهِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ; لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا : الْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ إلَّا قَدْرُ حَقِّهِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بِتَصَرُّفِ الظَّالِمِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ يَقُولُ : مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ الظَّالِمُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَمْلِكْهُ ; لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالثَّمَنُ الَّذِي أَدَّاهُ وَقَدْ غَصَبَهُ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ دُونَ النَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمَهُمْ وَمَا فِي يَدِهِ لَا يَمْلِكُهُ ; بَلْ هُوَ لِأُنَاسٍ مَجْهُولِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ . وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِمْ إلَّا بِإِذْنِهِمْ . وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ كَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْغَائِبِينَ يَقْضِي الدُّيُونَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِلْبَائِعِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدِهِ لَهُمْ . وَقِيلَ : إنَّ الْبَائِعَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ الَّذِي عَلَيْهِمْ مِمَّا لَهُمْ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ وَهَذَا أَصَحُّ ; فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضَّيْفِ الْمَظْلُومِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ زَرْعِ الْمُضِيفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَمَا أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِلَا إذْنِ الزَّوْجِ ; لَكِنْ إذَا كَانَ الْحَقُّ مَجْحُودًا . فَقَدْ قَالَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ بَاعَ غَيْرَهُ سِلْعَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ حَتَّى تُوفِيَ التَّبَرُّعَاتُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَيَقُولُونَ مَنْ بِيَدِهِ مَالُ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ مَالِكِهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ ; وَلَكِنْ لِصَاحِبِهِ إذَا ظَهَرَ أَنْ لَا يَنْفُذَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا عَرَفَ أَنْ يَرُدَّهَا ; بَلْ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ وَصِيٌّ وَلَا وَارِثٌ وَلَا حَاكِمٌ فَإِنَّ رُفْقَتَهُ فِي السَّفَرِ تَثْبُتُ لَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى مَالِهِ فَيَحْفَظُونَهُ وَيَبِيعُونَ مَا يَرَوْنَ بَيْعَهُ مَصْلَحَةً وَيَنْفُذُ هَذَا الْبَيْعُ وَلَهُمْ أَنَّ يَقْبِضُوا مَا بَاعُوهُ وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ ; بَلْ هُوَ يُعْرَفُ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْحَاجَةِ كَمَا ثَبَتَ لَهُمْ وِلَايَةُ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ مِنْ مَالِهِ وَدَفْنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْبَائِعُ الَّذِي بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا قِيلَ : الْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي رَدَّ مَا قَبَضَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدَّ الْمُشْتَرِي مَا قَبَضَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَظِيرَ ذَلِكَ . وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَأَقَلَّ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ مِثْلُهُ . وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَاهُ : تِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَقَابِضُ الزِّيَادَةِ الظلمية إذَا لَمْ يَرُدَّهَا كَانَ لِلْمَظْلُومِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي صَارَ بِيَدِ الْبَائِعِ نَظِيرَ ذَلِكَ وَقَابَضَهَا الَّذِي بَاعَ بِهَا مَالَهُ إذَا لَمْ يَرُدَّ مَالَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِهِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ . وَهَذَا احْتِمَالُ كُلِّ مَنْ تَبَايَعَا بَيْعًا فَاسِدًا وتقابضاه إذَا قِيلَ : أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُمَلَّكُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عِنْدَ الْآخَرِ مَا قَبَضَهُ الْآخَرُ مِنْهُ وَلِلْآخَرِ عِنْدَهُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ . فَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . وَعَلَى هَذَا فَمَا صَارَ بِيَدِ هَذَا الضَّامِنِ الظَّالِمِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الظلمية مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْتَرِينَ الْمُخْتَلِطَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ : إذَا اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا وَأَقْبَضَ الْمُشْتَرِينَ مِلْكَ الزِّيَادَةِ وَقَبَضَ مَا اشْتَرَاهُ كَانَ مَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِإِزَاءِ مَا قَبَضُوهُ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ حَرَامًا فَكَيْفَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُ بِزِيَادَةِ ; بِخِلَافِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ تَبَرُّعًا فَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُعَامِلُ بِالرِّبَا إذَا أَضَافَ غَيْرَهُ . فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كُلْ فَإِنَّ مَهَنَاهُ لَك وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ كَلَامٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ . مِنْهَا الْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يُمْلَكُ أَوْ لَا يُمْلَكُ ؟ . وَمِنْهَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ تَصَرُّفًا يَمْنَعُ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا فَهَلْ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى ذِمَّتِهِ ؟ أَوْ هُوَ بَاقٍ فِي مَالِهِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ الْعَيْنُ وَاَلَّذِي عَاوَضَ بِهِ عَنْ الْعَيْنِ ؟ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِوَقْفِ الْعُقُودِ - لَا سِيَّمَا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ - فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ . فَإِنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ أَنَّ النَّاسَ يَرْضَوْنَ بِبَيْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الَّتِي أَعَدُّوهَا لِلْبَيْعِ بِالزِّيَادَةِ ; بِخِلَافِ مَا أَعَدُّوهُ لِلْقِنْيَةِ . وَأَيْضًا فَالْمَظْلُومُ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ قَلِيلٌ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الَّتِي ظَلَمَهَا فَبَعْضُهُ لِصَاحِبِ الْحَانُوتِ الظَّالِمِ وَلَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا وَمِثْلُ هَذَا إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهُ أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ لِأَجْلِ شَرِيكِهِ فَمَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ - كَحَيَوَانِ - إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهَا وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ; وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ ; لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ لَا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ . بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ . فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ : وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ } فَجَعَلَ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ وَأَمَرَ بِتَقْوِيمِ جَمِيعِ الْعَبْدِ لَا بِتَقْوِيمِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فَقَطْ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ الظلمية لَا تَتَمَيَّزُ عَنْ الْمَزِيدِ وَلَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ أَوْ قِسْمَةِ بَدَلِهَا وَالْعَيْنُ قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَتَعَيَّنَ قِيمَةُ بَدَلِهَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ صَاحِبَ الْحَانُوتِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الشُّرَكَاءَ الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ . وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ : أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِينَ فِي ذِمَّتِهِ فَقَطْ أَوْ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَعْيَانِ مَعَ جَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ لِتَوْفِيَةِ حُقُوقِهِمْ ; إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِمْ بِالْعَدْلِ إلَّا مَعَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَالْمُشْتَرُونَ تَسَلَّمُوا مَا اشْتَرَوْهُ شِرَاءً حَلَالًا جَائِزًا . وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُبَيِّنُ أَنَّ النَّاسَ الْمُشْتَرِينَ لَمْ يَظْلِمُوا أَحَدًا إذَا اشْتَرَوْا وَإِنَّ شِرَاءَهُمْ جَائِزٌ وَأَنَّ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ ظُلْمٌ مُضَاعَفٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ . وَعَلَى هَذَا فَمَعَ الْحَاجَةِ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَا يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْرُمَ . وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الَّذِي بَاعَهُ عَيْنَ الْمَعْقُودِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ وَعَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَالِكِ الْمَجْهُولِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِلْمَصْلَحَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِوَقْفِهَا ; لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ أَحْمَد عِنْدَ الْحَاجَةِ : مِثْلُ أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ الْمَالِكِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ وَفِي ذَلِكَ بِدُونِ الْحَاجَةِ رِوَايَتَانِ . وَاخْتَارَ الخرقي الْقَوْلَ بِوَقْفِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ إذَا أَمْكَنَ اسْتِئْذَانُهُ . وَأَمَّا الْمَجْهُولُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْذَانِهِ ; بَلْ يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ لَهُ بِالْمَصْلَحَةِ . وَلَوْ عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِنَّمَا لَهُ رَدُّ التَّبَرُّعَاتِ كَصَاحِبِ اللُّقَطَةِ . وَقَدْ عُرِفَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ أَنَّ أَرْبَابَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ . وَلَا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ تُبَاعَ سِلْعَتُهُ بِزِيَادَةِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ بَيْعَ الْمُشْتَرِي ; وَلَكِنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي ظَلَمَهُمْ وَهُوَ هُنَا لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ الْمَالِكُ جَازَ التَّصَرُّفُ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ; بِخِلَافِ مَا إذَا عُرِفَ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِهِ فِي الْقَبْضِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذَا كَاللُّقَطَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ إذَا عُرِفَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ يَكُونُ التَّصَدُّقُ نَافِذًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ ; وَلَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ الْبَائِعَ لَيْسَ بِظَالِمِ وَهُنَا الْبَائِعُ ظَالِمٌ ; لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ بِظَالِمِ وَالْمَالُ لَا يُمْكِنُ إتْلَافُهُ وَهُوَ بِيَدِ الْبَائِعِ الظَّالِمِ فَأَخْذُ الشِّرَاءِ لَهُ بِالزِّيَادَةِ حَرَامٌ لِلْمَالِكِ الْمَجْهُولِ فَالشَّارِعُ يُنَفِّذُ الْمِلْكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ الْمَجْهُولِ الْمَظْلُومِ ; إنْ كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا . كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ وَوَصِيَّ الْيَتِيمِ وَالْمُضَارِبَ وَالشَّرِيكَ خَانُوا ثُمَّ تَصَرَّفُوا مَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِمْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ وَحَقِّ رَبِّ الْمَالِ وَإِلَّا فَلَوْ أَبْطَلَ ذَلِكَ فَسَدَ عَامَّةُ أَمْوَالِ النَّاسِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْوِكَالَةِ ; لِغَلَبَةِ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْوُكَلَاءِ ; لَا سِيَّمَا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ - وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا - فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ رِعَايَةُ حَقٍّ مَجْهُولٍ فِي عَيْنٍ حَصَلَ عَنْهَا بَدَلٌ خَيْرٌ لَهُ . مِنْهَا أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ أَمْوَالُهُمْ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مِنْ يَهْدِمُ مِصْرًا وَيَبْنِي قَصْرًا . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا لَهُ مَكَانٌ آخَرُ قَدْ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ .