تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ : وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ : مَا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَا سِيَّمَا دِمَشْقُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَسَاكِنَ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَوْ يُسْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ . فَهَذَا - إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ - مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ إذَا كَانَ الشَّجَرُ قَلِيلًا وَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ; وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَد كَالْقَوْلَيْنِ . قَالَ الكرماني : قِيلَ لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ فِيهَا نَخَلَاتٌ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ أَظُنُّهُ : إذَا أَرَادَ الشَّجَرَ فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْ أَحْمَد أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ فِيمَا إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ هُوَ غَيْرَ الْجِنْسِ كَشَاةِ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ . وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ كَقَوْلِ مَالِكٍ ; فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ : جَازَ ; وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ . وَلِأَنَّهُ يَقُولُ : إذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرَكْ : يَجُوزُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ . وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَائِهَا . وَاشْتِرَاءُ النَّخْلِ وَدُخُولُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَأْمَنْ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ : بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ ثَمَرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا . وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ : مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ . كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ } . وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تَشْقُحَ . قِيلَ : وَمَا تَشْقُحُ ؟ قَالَ : تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُثَنَّى الْمُحَدِّثِ عَنْ جَابِرٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : " وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ " بَدَلَ " الْمُعَاوَمَةِ " وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يشقه } والإشقاه : أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَالْمُحَاقَلَةُ : أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ . وَالْمُزَابَنَةُ : أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ . وَالْمُخَابَرَةُ : الثُّلُثُ أَوْ الرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . قَالَ زَيْدٌ : قُلْت لِعَطَاءِ : أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ " وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي البختري . قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ . فَقَالَ : " { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ وَحَتَّى يُوزَنَ . فَقُلْت : مَا يُوزَنُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ : حَتَّى يُحْرَزَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَابَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ } . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ ثَمَرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ . قَالُوا : فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ فَقَدْ بَاعَهُ الثَّمَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرَدَ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ . وَمَنْ جَوَّزَهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا قَالَ : الْغَرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ كَمَا لَوْ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ . وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ ابْتِيَاعَ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ وَيُجَوِّزُ ابْتِيَاعَهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ . وَمُوجِبُ الْعَقْدِ : الْقَطْعُ فِي الْحَالِ فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ . فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ كَثِيرٌ : إجْمَاعٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الكرماني وَهَذَا الْقَوْلُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ . فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ - قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ : " أَنَّ أسيد بْنَ حضير تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ فَقَبِلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ " . وَأَيْضًا : فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا . فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ أَجْرِبَةِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا مُقَدَّرًا . وَالْمَشْهُورُ : أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبَ : عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ : ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ . وَعَلَى جَرِيبِ الرُّطَبَةِ : سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ : دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَاجَرَةِ . وَإِنَّمَا لَمْ يؤقته لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ . وَإِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ . فَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " مِنْ هَذَا . فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ . وَحُجَّةُ ابْنِ عَقِيلٍ : أَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ . وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ وَلَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا إذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ إلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ . لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ . فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إلَّا بِسَقْيِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ . هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَأَمَّا إنْ فَاضَلَ بَيْن الْجُزْأَيْنِ . فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ . وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ . فَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا . فَقَدْ جَوَّزَ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ . فَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ إجَارَةَ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ . وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ ; وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا : هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ مُرْتَكِبٍ لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ ضَارٌّ وَمُتَضَرِّرٌ . فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ : تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا يَبِيعُهُ إيَّاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُبِيحُهُ إبْقَاءَهَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَتَارَةً بِأَنْ يُكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ ; مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ . فَقَدْ اُضْطُرُّوا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إلَى أَنْ تُسَمَّى الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مُسَاقَاتِهَا . وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ : إبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِعَيْنِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ الصَّحِيحُ قَطْعًا ; لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ : أَحْمَد وَأَبُو داود والنسائي والترمذي وَابْنُ ماجه . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ . فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلِهِ . وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِثْلَ : الْهِبَةِ وَالْعَارِيَة وَالْعُرْيَةِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : هِيَ مِثْلُ الْقَرْضِ . فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّعَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ ; لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ ; فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفِ : لَمْ يَرْضَ بِالْإِقْرَاضِ إلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا فَلَا هَذَا بَاعَ بَيْعًا بِأَلْفِ وَلَا هَذَا أَقْرَضَ قَرْضًا مَحْضًا ; بَلْ الْحَقِيقَةُ : أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذَ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ : حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ وَهَكَذَا مَنْ اكْتَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ . فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ : أَنَّهُ إنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا وَأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا بَذَلَ الْأَلْفَ لِأَجْلِ الثَّمَرَةِ فَالثَّمَرَةُ هِيَ جُلُّ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ فَلَيْسَتْ الْحِيلَةُ إلَّا ضَرْبًا مِنْ اللَّعِبِ وَالْإِفْسَادِ ; وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ . وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ . وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ وَالِاضْطِرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ ذَلِكَ إلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ } " { يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا } " { لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سِعَةً } فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا : أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةُ الْتِزَامَهُ قَطُّ ; لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ ; بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَكُلُّ مَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً - هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ - لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ اُضْطُرَّ فِيهِ إلَى الْمَيْتَةِ وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ فَتُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُحْتَالُ وَحَالُهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وَقَوْلُهُ { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ } الْآيَةَ . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ رُبَّمَا نُنَبِّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَف الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ : هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا ; فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ أسيد بْنِ الحضير . فَإِنَّهُ قَبِلَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّذِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ . وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِيطَانَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الشَّجَرَ وأسيد بْنُ الحضير كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ . فَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى حَائِطِهِ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ . ثُمَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَهِرَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا فَيَكُونُ إجْمَاعًا . وَكَذَلِكَ مَا ضَرَّ بِهِ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى السَّوَادِ ; فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } . وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ ; فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا لِسَيِّدِهِ مِنْ مَالِهِ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أُجْرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذَا ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ . وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الصَّحَابَةُ - وَلَا نَظِيرَ لَهُ - لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ سَوَاءٌ . فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ : يُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ . قِيلَ : وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ الْمُسَاقَاةَ أَوْ الْمُزَارَعَةَ كَمَا فَعَلَ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ; إمَّا فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَإِمَّا بَعْدَهُ ; فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنْ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوْ الْمُحَابَاةِ فِيهَا . قِيلَ : وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ ذَلِكَ . فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ .