تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ : وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ ; كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ ; وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ ; لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضِ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ فِيهَا مَعْلُومًا ; لِأَنَّهَا كَالثَّمَنِ . وَلِمَا رَوَى أَحْمَد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ } وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلًا وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ وَقَدْ لَا يَخْرُجُ فَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ كَانَ اسْتِيفَاءُ عَمَلِ الْعَامِلِ بَاطِلًا . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا بِتَحْرِيمِ هَذَا . وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إدْخَالًا لِذَلِكَ فِي الْغَرَرِ ; لَكِنْ جَوَّزَا مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ . فَجَوَّزَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ كِرَاء الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ; وَالْمَالِكُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَقْيُ شَجَرِهِ وَخِدْمَتِهِ فَيَضْطَرُّ إلَى الْمُسَاقَاةِ ; بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْأَجْرِ الْمُسَمَّى فَيُغْنِيهِ ذَلِكَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ عَلَيْهِ تَبَعًا لَكِنْ جَوَّزَا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا ; فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ قَلِيلٌ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ زَرْعَ ذَلِكَ الْبَيَاضِ لِلْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ . فَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا جَازَ . وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الثُّلُثَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْعَلُهُ لِلْعَامِلِ ; لَكِنْ يَقُولُ : إذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقْيُ الشَّجَرِ إلَّا بِسَقْيِهِ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ . وَلِأَصْحَابِهِ فِي الْبَيَاضِ إذَا كَانَ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ الشَّجَرِ وَجْهَانِ . وَهَذَا إذَا جَمَعَهُمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ ; فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صَفْقَتَيْنِ فَوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ بِحَالِ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ تَبَعًا فَلَا يُفْرَدُ بِعَقْدِ . وَ " الثَّانِي " : يَجُوزُ إذَا سَاقَى ثُمَّ زَارَعَ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ . وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا . وَهَذَا إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ . وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ : طاوس وَالْحَسَنُ وَبَعْضُ الْخَلَفِ - : الْمَنْعُ مِنْ إجَارَتِهَا بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ . رَوَى حَرْبٌ عَنْ الأوزاعي أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ يَصْلُحُ اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ ؟ فَقَالَ : اُخْتُلِفَ فِيهِ فَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِاكْتِرَائِهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ بَأْسًا . وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ . وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِنَاءً عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ ; وَقَدْ لَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِرَاءِ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ . وَقَدْ كَانَ طاوس يُزَارِعُ وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ إمَّا أَنْ يَغْنَمَا جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَا جَمِيعًا فَتَذْهَبُ مَنْفَعَةُ بَدَنِ هَذَا وَبَقَرِهِ وَمَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا . وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مَضْمُونٍ وَيَبْقَى الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ ; إذْ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُوَ الزَّرْعُ ; لَا الْقُدْرَةُ عَلَى حَرْثِ الْأَرْضِ وَبَذْرِهَا وَسَقْيِهَا . وَعُذْرُ الْفَرِيقَيْنِ - مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ - مَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَعَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ ; كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَحَدِيثِ جَابِرٍ . فَعَنْ نَافِعٍ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعٍ فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَأَلَهُ ؟ فَقَالَ : نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ : أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ فِيهَا بِنَهْيٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ فَسَأَلَهُ . فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْهَا بَعْدُ قَالَ : زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا } وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ : يَا ابْنَ خَدِيجٍ مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ ؟ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ لِعَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْت عَمَّيَّ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا - يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَقَدْ كُنْت أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ فَتَرَكَ كِرَاء الْأَرْضِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي فِي آخِرِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ عَمِّهِ ظهير بْنِ رَافِعٍ قَالَ ظهير : " { لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا فَقُلْت : وَمَا ذَاكَ ؟ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَقٌّ . قَالَ : دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ ؟ فَقُلْت : نُؤَاجِرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الرُّبُعِ أَوْ عَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا . قَالَ رَافِعٌ : قُلْت : سَمْعًا وَطَاعَةً } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ } أَخْرَجَاهُ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " { كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ } أَخْرَجَاهُ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَأْخُذُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ بالماذيانات فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ : مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا فَلْيُمْسِكْهَا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " وَلَا يُكْرِيهَا " . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " { نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ } . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يشقه } والإشقاه : أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَالْمُحَاقَلَةُ : أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ . وَالْمُزَابَنَةُ : أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ وَالْمُخَابَرَةُ : الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . قَالَ زَيْدٌ : قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ : أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ " . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ ; لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ كِرَائِهَا وَالْكِرَاءُ يَعُمُّهَا ; لِأَنَّهُ قَالَ : " { فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْهَا } فَلَمْ يُرَخِّصْ إلَّا فِي أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يَمْنَحَهَا لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا ; لَا بِمُؤَاجَرَةٍ وَلَا بِمُزَارَعَةٍ . وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الْمُزَارَعَةِ - دُونَ الْمُؤَاجَرَةِ - يَقُولُ : الْكِرَاءُ هُوَ الْإِجَارَةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا ; بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَتَأْتِي أَدِلَّتُهَا الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَامِلُ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ وَعَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ الَّذِي تَرَكَ كِرَاء الْأَرْضِ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ أَهْلِ خَيْبَرَ رِوَايَةَ مَنْ يُفْتِي بِهِ ; وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ . وَالْمُؤَاجَرَةُ أَظْهَرُ فِي الْغَرَرِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمَنْ يُجَوِّزُ الْمُؤَاجَرَةَ دُونَ الْمُزَارَعَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ . وَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَا } فَهَذَا صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُؤَاجَرَةِ ; وَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَائِهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ } . وَذَهَبَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْجَامِعُونَ لِطُرُقِهِ كُلُّهُمْ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ داود الْهَاشِمِيِّ وَأَبِي خيثمة زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ . كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَأَبِي داود وَجَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ; كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خزيمة وَالْخَطَّابِيَّ وَغَيْرِهِمْ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - إلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَعَمَلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَبَيَّنُوا مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُظَنُّ اخْتِلَافُهَا فِي هَذَا الْبَابِ . فَمِنْ ذَلِكَ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ . فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " { عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ } أَخْرَجَاهُ وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا } . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { لَمَّا اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا . وَكَانَ الثَّمَرُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ . فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ } . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يعتملوها مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْرُ ثَمَرِهَا } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى خَيْبَرَ أَهْلَهَا عَلَى النِّصْفِ : نَخْلِهَا وَأَرْضِهَا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ ماجه وَعَنْ طاوس : " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَكْرَى الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَهُوَ يُعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِك هَذَا " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ . وطاوس كَانَ بِالْيَمَنِ وَأَخَذَ عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُخَضْرَمِينَ وَقَوْلُهُ " وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ أَيْ : كُنَّا نَفْعَلُ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَحَذَفَ الْفِعْلَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعَاذًا خَرَجَ مِنْ الْيَمَنِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَقَدِمَ الشَّامَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَتِهِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ يَعْنِي الْبَاقِرَ - " مَا بِالْمَدِينَةِ دَارُ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ " قَالَ : " وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سيرين . وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدَهُ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا " . وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ . فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ : لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ; بَلْ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا . لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ جَمِيعُهُمْ زَارَعُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ إلَى أَنْ أَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ إلَى تَيْمَاءَ . وَقَدْ تَأَوَّلَ مَنْ أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ . مِثْلَ أَنْ قَالَ كَانَ الْيَهُودُ عَبِيدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِثْلَ الْخَارِجَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ . وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يَبِعْهُمْ وَلَا مَكَّنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَمِثْلَ أَنْ قَالَ : هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ . فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مَرْدُودٌ ; فَإِنَّ خَيْبَرَ قَدْ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ . ثُمَّ إنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَامَلَ عَلَى عَهْدِهِ أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِذَلِكَ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ مَعَ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبِيحَةِ أَوْ النَّافِيَةِ لِلْحَرَجِ وَمَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُشَارَكَةٌ ; لَيْسَتْ مِثْلَ الْمُؤَاجَرَةِ الْمُطْلَقَةِ ; فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ يَحْصُلُ مِنْ مَنْفَعَةِ أَصْلَيْنِ : مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّتِي لِهَذَا كَبَدَنِهِ وَبَقَرِهِ . وَمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّتِي لِهَذَا كَأَرْضِهِ وَشَجَرِهِ كَمَا تَحْصُلُ الْمَغَانِمُ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْغَانِمِينَ وَخَيْلِهِمْ وَكَمَا يَحْصُلُ مَالُ الْفَيْءِ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ ; بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ . فَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءٍ أَوْ خِيَاطَةٍ أَوْ شَقِّ الْأَرْضِ أَوْ بَذْرِهَا أَوْ حَصَادٍ فَإِذَا وَفَّاهُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مَقْصُودَهُ بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ . وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا كَمَا يُشْتَرَطُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ . وَهُنَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْعَامِلِ وَبَدَنِ بَقَرِهِ وَحَدِيدِهِ : هُوَ مِثْلُ مَنْفَعَةِ أَرْضِ الْمَالِكِ وَشَجَرِهِ . لَيْسَ مَقْصُودُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا : مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمَنْفَعَتَيْنِ . فَإِنْ حَصَلَ نَمَاءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ . وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَمَاءٌ ذَهَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَتُهُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ كَسَائِرِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ نَمَاءِ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ . وَهَذَا جِنْسٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ يُخَالِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحُكْمِهِ الْإِجَارَةَ الْمَحْضَةَ وَمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ . فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ العدلية فِي الْأَرْضِ جِنْسَانِ : مُعَاوَضَاتٌ وَمُشَارَكَاتٌ . فَالْمُعَاوَضَاتُ : كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَالْمُشَارَكَاتُ : شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَاشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي الْمُبَاحَاتِ كَمَنَافِعِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَا يُحْيَا مِنْ الْمَوَاتِ أَوْ يُوجَدُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَاشْتِرَاكِ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَاشْتِرَاكِ الْمُوصَى لَهُمْ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَاشْتِرَاكِ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ أَبْدَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَانِ الْجِنْسَانِ هُمَا مَنْشَأُ الظُّلْمِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ داود عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } . وَالتَّصَرُّفَاتُ الْأُخَرُ هِيَ الْفَضِيلَةُ : كَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَة وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ . وَإِذَا كَانَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمُعَادَلَةِ هِيَ مُعَاوَضَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ . فَمَعْلُومٌ قَطْعًا : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ لَيْسَا مَنْ جَنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ وَالْغَرَرُ إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ . وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا مَالَ الْآخَرِ ; لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْبُتْ الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأْخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ ; إذْ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ ; بَلْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كَمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا ; بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَإِجَارَةِ الْغَرَرِ ; فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا وَالْآخَرُ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا . وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَأْخَذُ هَذِهِ الْأُصُولِ . وَعَلِمَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْرَفُ فِي الْعُقُولِ وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ مَحْذُورٍ مِنْ جَوَازِ إجَارَةِ الْأَرْضِ ; بَلْ وَمِنْ جَوَازِ كَثِيرٍ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ هِيَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَا فَسَادٍ . وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ فِيهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَهَا مِنْ إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ بَعْدَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ الْآثَارِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا هَذَا إجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ ; لِمَا فِيهَا مِنْ عَمَلٍ بِعِوَضِ . وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِيَنْتَفِعَ بِعَمَلِهِ يَكُونُ أَجِيرًا كَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَكَاشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَغَانِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِمَالٍ يَضْمَنُهُ لَهُ الْآخَرُ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ عَمَلِهِ : كَانَ هَذَا إجَارَةً . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَارَبَةِ . فَإِنَّهَا عَيْنٌ تَنْمُو بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا فَجَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمُضَارَبَةِ جَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهَا بِعَيْنِهَا سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَد يَرَى أَنْ يَقِيسَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ فَتُجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا مَنْ خَالَفَ . وَقِيَاسُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَحِيحٌ . فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ جَوَازُ أَحَدِهِمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ حُكْمَ الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ عَيْنِ الْأَصْلِ ; بَلْ الْأَصْلُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَدَلُهُ . فَالْمَالُ الْمُقَسَّمُ حَصَلَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ ; بِخِلَافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ . قِيلَ : هَذَا الْفَرْقُ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ مَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةِ رَأْسِ الْمَالِ ; وَلِهَذَا يَرُدُّ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلَ رَأْسِ مَالِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ كَمَا أَنَّ الْعَامِلَ يَبْقَى بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الدَّرَاهِمِ . وَلَيْسَتْ إضَافَةُ الرِّبْحِ إلَى عَمَلِ بَدَنِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا . وَلِهَذَا فَالْمُضَارَبَةُ الَّتِي تَرْوُونَهَا عَنْ عُمَرَ : إنَّمَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْ عُمَرَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَحَمَلَاهُ إلَى أَبِيهِمَا . فَطَلَبَ عُمَرُ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ كَالْغَصْبِ حَيْثُ أَقْرَضَهُمَا وَلَمْ يُقْرِضْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ وَأَحَدُ الشُّرَكَاءِ إذَا اتَّجَرَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ إذْنِ الْآخَرِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ : " { الضَّمَانُ كَانَ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الرِّبْحُ لَنَا } فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - هَلْ يَكُونُ رِبْحُ مَنْ اتَّجَرَ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ أَوْ لَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا : أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ; كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ ; لِأَنَّ النَّمَاءَ مُتَوَلِّدٌ عَنْ الْأَصْلَيْنِ . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ رَاعَوْا فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا ; وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً ; يُقَالُ : مَنِيحَةُ وَرِقٍ . وَيَقُولُ النَّاسُ : أَعِرْنِي دَرَاهِمَك . يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ مِثْلَ رَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَة وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا . وَسَمَّوْا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا ; لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرُ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ . وَيُقَالُ أَيْضًا : لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ; لِأَنَّ النَّمَاءَ إذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا . وَإِنْ قِيلَ : الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَدَنِ . فَقَدْ يُقَالُ : وَالرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ . وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ; بَلْ الزَّرْعُ يَحْصُلُ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ . ثُمَّ لَوْ سَلِمَ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ ; لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودُ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ . وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا النَّمَاءُ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ ; وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ . فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ جِدًّا وَالْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى إطْنَابٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ . أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : لِكُلِّ مَنْ بَذَلَ نَفْعًا بِعِوَضٍ . فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ . فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ هُنَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَكَانَ الْآخَرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ . الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِجَارَةُ الَّتِي هِيَ جَعَالَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَكِنَّ الْعِوَضَ مَضْمُونًا ؟ فَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا غَيْرَ لَازِمٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا . فَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ . الثَّالِثَةُ : الْإِجَارَةُ الْخَاصَّةُ . وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَيْنًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ ; بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً . فَيَكُونُ الْأَجْرُ مَعْلُومًا وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ . وَهَذِهِ الْإِجَارَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ . وَالْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذَا أَطْلَقُوا الْإِجَارَةَ أَوْ قَالُوا " بَابُ الْإِجَارَةِ " أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى . فَيُقَالُ : الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَنَحْوُهُنَّ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ عَلَى نَمَاءٍ يَحْصُلُ مَنْ قَالَ : هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْ الْعَامِّ فَقَدْ صَدَقَ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَإِذَا كَانَتْ إجَارَةً بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الْجَعَالَةُ . فَهُنَالِكَ إنْ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا مَضْمُونًا مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ : مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا فَلَهُ مِنْهُ كَذَا فَحُصُولُ الْجَعْلِ هُنَاكَ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ جَعَالَةٌ مَحْضَةٌ لَا شَرِكَةَ فِيهِ . فَالشِّرْكَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَيَسْلُكُ فِي هَذَا طَرِيقَةً أُخْرَى . فَيُقَالُ : الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُ الْأُصُولِ : أَنَّ الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضُ غَرَرًا قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ . فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ : فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ ; لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهَا فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ . فَتَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إجَارَةً يَسْتَفْسِرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ . فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ : لَمْ يَصِحَّ . وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ : فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ ؟ فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ وَلَنْ يَجِدَ إلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا . فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ . وَيَسْلُكُ فِي هَذَا طَرِيقَةً أُخْرَى . وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ . وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضَ حُكْمِ الْأَصْلِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ . فَيُقَالُ : الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ . فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ فِي الْفَرْعِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا - وَهُوَ مُنْتَفٍ - فَلَا تَحْرِيمَ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ - حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ - : فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدِهِ بَلْ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ . فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : " { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرِعًا كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا تُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ . قَالَ : مِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتُسَلَّمُ الْأَرْضُ وَمِمَّا تُصَابُ الْأَرْضُ وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ ؟ فَنَهَيْنَا . فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ } " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ . قَالَ : " { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا . وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ . فَيَقُولُ : هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي . وَهَذِهِ لَك . فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ . فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " . وَفِي رِ