وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ : { رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا } فَمَا خَرْصُهَا ؟ وَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُحَفَّلَةِ } ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا " الْمُصَرَّاةُ وَالْمُحَفَّلَةُ " فَهِيَ الْبَهِيمَةُ - مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهِمَا - تُتْرَكُ حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا أَيَّامًا ثُمَّ تُبَاعُ يَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا تَحْلِبُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ . فَهَذَا مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ وَقَدْ حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجَعَلَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ ثَلَاثًا إذَا حَلَبَهَا ; إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ عِوَضَ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِوَضَهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ . وَأَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْبَائِعُ تَسْلِيمَهُ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ الْآبِقَ وَبَعِيرَهُ أَوْ فَرَسَهُ الشَّارِدَ أَوْ طَيْرَهُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ قَفَصِهِ أَوْ مِنْ حَبْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ بَيْعَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ " بَابِ الْمُخَاطَرَةِ وَالْقِمَارِ " فَإِنَّ الْمَبِيعَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ حَيْثُ أَخَذَ مَالَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَكْلُ مَالِ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ . وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا فِي بَطْنِ الدَّابَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَهَذِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ . وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا . وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَصَاةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ هَذِهِ الْحَصَاةُ أَوْ بِعْتُك - مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ ؟ أَوْ الشِّيَاهِ أَوْ الْغِلْمَانِ أَوْ غَيْرِهِ - مَا تَقَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْوَصْفِ . وَأَمَّا " الْعَرَايَا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَاهَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ . " وَالْمُزَابَنَةُ " أَنْ يَشْتَرِيَ الرُّطَبَ فِي الشَّجَرِ بِخَرْصِهِ مِنْ التَّمْرِ . وَ " الْمُحَاقَلَةُ " أَنْ يَشْتَرِيَ الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِخَرْصِهَا مِنْ الْحِنْطَةِ . وَالْخَرْصُ هُوَ الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ . فَيُقَالُ : كَمْ فِي هَذِهِ النَّخْلَةِ ؟ فَيُقَالُ : خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَيُقَالُ : اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ . أَوْ كَمْ فِي هَذَا الْحَقْلِ مِنْ الْبُرِّ فَيُقَالُ : خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَيُقَالُ : اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ . وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُبَاعُ إلَّا بِقَدْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ } . وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى . فَإِذَا بِيعَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ بِمِثْلِهَا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا إلَّا مُتَمَاثِلَةً فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّمَاثُلُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ . وَالتَّمَاثُلُ يُعْلَمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ . وَأَمَّا الْخَرْصُ : فَهُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَلَا . فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَحْزِرُونَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَأَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْعَرَايَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا ; لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ . وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَهُوَ مَا دُونُ النِّصَابِ وَهُوَ مَا دُونُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِحَاجَةِ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَفْظُ " الْعَرَايَا " مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النَّخَلَاتُ الَّتِي يُعِيرُهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : أَيْ يُعْطِيهِ إيَّاهَا لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ فِيهِ بِالْكَرَمِ : فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاء وَلَا رَجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِلْمَاشِيَةِ " الْمَنِيحَةِ " : مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَهُ النَّاقَةَ أَوْ الشَّاةَ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَارِيَةِ . وَهُوَ أَنْ يُعِيرَهُ دَارَهُ لِيَسْكُنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ . وَمِنْهُ أَفَقَارُ الظَّهْرِ : وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَ فَقَارَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ . فَهَذَا أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ; لَكِنْ حُكْمُ الْعَرَايَا هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا كَانَ مَوْهُوبًا لِلْمُشْتَرِي ؟ أَوْ عَامٌّ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالثَّانِي قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْقَوْلَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .