وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَمَاتَ فَعَمِلَ فِيهِ الْعَامِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ . فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ ؟ وَمَا حُكْمُ الرِّبْحِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَالِكِ ؟
فَأَجَابَ : نَعَمْ تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ ثُمَّ إذَا عَلِمَ الْعَامِلُ بِمَوْتِهِ وَتَصَرَّفَ بِلَا إذْن الْمَالِكِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَلَا وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ غَاصِبٌ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ فِي هَذَا : هَلْ هُوَ لِلْمَالِكِ فَقَطْ كَنَمَاءِ الْأَعْيَانِ ؟ أَوْ لِلْعَامِلِ فَقَطْ ؟ لِأَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ أَوْ يَتَصَدَّقَانِ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ ؟ أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَصَحُّهَا الرَّابِعُ . وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا كَمَا يَجْرِي بِهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَبِهَذَا حَكَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا أَخَذَهُ بَنُوهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَاتَّجَرُوا فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَجَعَلَهُ مُضَارَبَةً وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ فِي " بَابِ الْمُضَارَبَةِ " ; لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءٌ حَاصِلٌ مِنْ مَنْفَعَةِ بَدَنِ هَذَا وَمَالِ هَذَا : فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ مِنْ أَصْلَيْنِ وَالْحَقُّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا وَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمَا وَلَا لِتَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِهِ . وَإِيجَابُ قِسْطِ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ; فَإِنَّ الْمَالَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ رِبْحٌ وَقَدْ تَكُونُ أُجْرَتُهُ أَضْعَافَ رِبْحِهِ وَبِالْعَكْسِ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الْعَمَلَ حَتَّى يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أُجْرَةً وَلَا هِيَ عَقْدُ إجَارَةٍ ; وَإِنَّمَا هِيَ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ الْمُؤَاجَرَاتِ حَتَّى يَبْطُلَ فِيهَا مَا يَبْطُلُ فِيهَا فَمَنْ أَوْجَبَ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ فِيهَا : فَقَدْ غَلِطَ . وَإِنْ كَانَ جَرَى بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْوَرَثَةِ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي فِي الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَ إبْقَاءً لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى لَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَكَانَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً مُسْتَحَقَّةً . وَإِذَا أَقَرَّ بِالرِّبْحِ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ . فَإِنْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ غَلَطًا لَا يُعْذَرُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ . وَإِنْ كَانَ يُعْذَرُ فِي مِثْلِهِ فَفِي قَبُولِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ أَوْ الشَّارِعِ . وَمَتَى فَعَلَ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ ; سَوَاءٌ كَانَ دَفْعُهُ بِعَقْدِ صَحِيحٍ ; أَوْ فَاسِدٍ . فَمَا ضَمِنَهُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ ضَمِنَ بِالْفَاسِدِ . وَمَا لَمْ يُضْمَنْ بِالصَّحِيحِ لَمْ يُضْمَنْ بِالْفَاسِدِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَالُ غَصْبًا فَهُوَ ضَامِنٌ بِكُلِّ حَالٍ وَمَتَى فَرَّطَ الْعَامِلُ فِي الْمَالِ أَوْ اعْتَدَى فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ . وَكَذَلِكَ الْعَامِلُ الثَّانِي إذَا جَحَدَ الْحَقَّ أَوْ كَتَمَ الْمَالَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَوْ طَلَبَ الْتِزَامَهُمْ إجَارَةً لِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ أَثِمَ بِذَلِكَ . وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .