تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ . هَلْ هِيَ حَرَامٌ ؟ وَهَلْ يَنْجُسُ مَا يَصْنَعُهُ بِيَدِهِ لِلْمَأْكَلِ ؟ وَهَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ ؟ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيمِ ؟ وَهَلْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ : آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ لَعْقَةٌ مِنْ عَسَلٍ أَوْ كَأْسٌ مِنْ حَجَّامٍ } " فَكَيْفَ حَرَّمَ هَذَا وَوَصَفَ بِالتَّدَاوِي هُنَا وَجَعَلَهُ شِفَاءً
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا يَدُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَهِيَ كَسَائِرِ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَضُرُّهَا تَلْوِيثُهَا بِالدَّمِ إذَا غَسَلَهَا كَمَا لَا يَضُرُّهَا تَلَوُّثُهَا بِالْخَبَثِ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ إذَا غَسَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ } وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَنَسٍ - وَسُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ - قَالَ : احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَمَهُ أَبُو طِيبَةَ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ } وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَجَّامَ إذَا حَجَمَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ حَجْمِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَقَدْ أَرْخَصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ وَيُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ { مُحْصَنٍ أَنَّ أَبَاهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرَاجِ الْحَجَّامِ فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ : أَطْعِمْهُ رَقِيقَك وَاعْلِفْهُ نَاضِحَك } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ . وَاحْتَجَّ بِهَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ . وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِلْحَرِّ تَنْزِيهًا . قَالُوا : لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ ; لِأَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ رَقِيقَهُ حَرَامًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ يَحْرُمُ ; لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ أَبِي جحيفة قَالَ : رَأَيْت أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ } . قَالَ هَؤُلَاءِ : فَتَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَتَحْرِيمِ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ . قَالَ الْأَوَّلُونَ : قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا } " فَسَمَّاهُمَا خَبِيثَتَيْنِ بِخُبْثِ رِيحِهِمَا وَلَيْسَتَا حَرَامًا . وَقَالَ : " { لَا يُصَلِّيَن أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثِينَ } أَيْ : الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ . فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا لِمُلَاقَاةِ صَاحِبِهِ النَّجَاسَةَ ; لَا لِتَحْرِيمِهِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ وَالْبَهَائِمَ . وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يُطْعَمُ مِنْهُ رَقِيقٌ وَلَا بَهِيمَةٌ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَحَالُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَيْسَتْ كَحَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ كَمَا قَالَ السَّلَفُ : كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ . وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ : كَانَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَعْدَلُهَا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحْتَاجِ قَالَ أَحْمَد : أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ خَيْرٌ مِنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ وَجَوَائِزُ السُّلْطَانِ خَيْرٌ مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ . وَلِهَذَا أُبِيحَتْ الْمُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى سُؤَالِ النَّاسِ . فَالْمَسْأَلَةُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ; وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَجِبُ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِالشُّبُهَاتِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو حَامِدٍ : أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ : إنَّ ابْنًا لِي مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ دُيُونٌ أَكْرَهُ تَقَاضِيهَا . فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد : أَتَدَعُ ذِمَّةَ ابْنِك مُرْتَهِنَةً ؟ يَقُولُ : قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الشُّبْهَةِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمَأْمُورُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْزَقُ الْحَاكِمُ وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَنَازَعُوا فِي الرِّزْقِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا ; إذْ الشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا . وَالْوَرَعُ تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعِ شَرِّ الشَّرَّيْنِ وَإِنْ حَصَلَ أَدْنَاهُمَا . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحِجَامَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ : شَرْبَةُ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةُ مِحْجَمٍ . أَوْ كَيَّةُ نَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ } وَالتَّدَاوِي بِالْحِجَامَةِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .