وَسُئِلَ  رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ   رَجُلٍ  مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَصَدَ لِأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ شَيْءٌ  مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  وَغَيْرِهَا  مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَامْتَنَعَ  مِنْ  إقْرَائِهَا إلَّا بِأُجْرَةِ  .  فَقِيلَ لَهُ : قَدْ رُوِيَ  مِنْ هَدْيِ   السَّلَفِ  وَأَئِمَّةِ الْهُدَى تَعْلِيمُ الْعِلْمِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ مَا لَا خَفَاءَ  بِهِ  عَلَى عَاقِلٍ  وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي .  فَقَالَ : أَقْرِئْ الْعِلْمَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ يَحْرُمُ عَلَيَّ  ذَلِكَ فَكَلَامُهُ صَحِيحٌ ؟ أَمْ بَاطِلٌ ؟ وَهَلْ هُوَ جَاهِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّهُ مَعْذُورٌ . وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ  أَخْذُ الْأُجْرَةِ  عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ ؟ أَمْ يُكْرَهُ لَهُ  ذَلِكَ ؟ . 
				
				
				 فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ .  أَمَّا   تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ  فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ  وَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ  وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ  مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ  هَذَا مِمَّا  يَخْفَى  عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ  نَشَأَ بِدِيَارِ الْإِسْلَامِ .   وَالصَّحَابَةُ   وَالتَّابِعُونَ  وَتَابِعُو التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ  مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إنَّمَا  كَانُوا يُعَلِّمُونَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ .  وَلَمْ يَكُنْ  فِيهِمْ مَنْ يُعَلِّمُ بِأُجْرَةِ أَصْلًا .  فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ  الْأَنْبِيَاءِ  وَإِنَّ  الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ  أَخَذَهُ فَقَدْ  أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ . وَالْأَنْبِيَاءُ   رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا  كَانُوا يُعَلِّمُونَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ .  كَمَا  قَالَ   نُوحٌ   عَلَيْهِ السَّلَامُ   {   وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ  مِنْ  أَجْرٍ إنْ  أَجْرِيَ إلَّا  عَلَى  رَبِّ الْعَالَمِينَ   }  وَكَذَلِكَ  قَالَ   هُودُ   وَصَالِحٌ   وَشُعَيْبٌ   وَلُوطٌ  وَغَيْرُهُمْ .  وَكَذَلِكَ  قَالَ خَاتَمُ الرُّسُلِ :   {   قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ  مِنْ  أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ   }  وَقَالَ :   {   قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ  مِنْ  أَجْرٍ إلَّا مَنْ  شَاءَ أَنْ  يَتَّخِذَ إلَى  رَبِّهِ سَبِيلًا   }  . وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ  ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ  فِي  أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ  يَكُونَ جَائِزًا ; بَلْ هُوَ  مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ;  فَإِنَّ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ الَّذِي بَيَّنَهُ فُرِضَ  عَلَى الْكِفَايَةِ  كَمَا  قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :   {   بَلِّغُوا  عَنِّي وَلَوْ آيَةً   }  وَقَالَ :   {   لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ   }  . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ  فِي جَوَازِ   الِاسْتِئْجَارِ  عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ  .  عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ  أَحْمَد  . إحْدَاهُمَا - وَهُوَ مَذْهَبُ  أَبِي حَنِيفَةَ  وَغَيْرِهِ -  أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ  عَلَى  ذَلِكَ .  وَالثَّانِيَةُ - وَهُوَ قَوْلُ  الشَّافِعِيِّ  -  أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ .  وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ  فِي مَذْهَبِ  أَحْمَد  أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ ;  دُونَ الْغِنَى  كَمَا  قَالَ تَعَالَى  فِي  وَلِيِّ الْيَتِيمِ : {   وَمَنْ  كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ  كَانَ  فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ   }  . وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى هَؤُلَاءِ  مِنْ  مَالِ الْمُسْلِمِينَ  عَلَى التَّعْلِيمِ  كَمَا يُعْطَى الْأَئِمَّةُ وَالْمُؤَذِّنُونَ وَالْقُضَاةُ  وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ .  وَهَلْ يَجُوزُ   الِارْتِزَاقُ مَعَ الْغِنَى   ؟  عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ  مِنْ الْمُسْلِمِينَ  أَنَّ عَمَلَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِغَيْرِ  أَجْرٍ لَا يَجُوزُ .  وَمَنْ  قَالَ : إنَّ  ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ; فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ  فَإِنْ تَابَ  وَإِلَّا قُتِلَ ; لَكِنْ إنْ  أَرَادَ  أَنَّهُ  فَقِيرٌ مَتَى عَلَّمَ بِغَيْرِ  أَجْرٍ  عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ  لِعِيَالِهِ وَالْكَسْبُ  لِعِيَالِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ  فَلَا يَجُوزُ لَهُ  تَرْكُ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ لِغَيْرِ مُتَعَيِّنٍ وَاعْتَقَدَ مَعَ  ذَلِكَ جَوَازَ التَّعْلِيمِ بِالْأُجْرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا ;  فَهَذَا مُتَأَوِّلٌ  فِي قَوْلِهِ لَا يَكْفُرُ  بِذَلِكَ  وَلَا يَفْسُقُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ  ; بَلْ إمَّا أَنْ  يَكُونَ مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا . وَمَأْخَذُ الْعُلَمَاءِ  فِي ( عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ  عَلَى  هَذَا النَّفْعِ :  أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ يَخْتَصُّ أَنْ  يَكُونَ فَاعِلُهَا  مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ ; لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ كَافِرٌ : وَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا مُسْلِمٌ ; بِخِلَافِ النَّفْعِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ : كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنَّسْجِ  وَنَحْوِ  ذَلِكَ .  وَإِذَا فُعِلَ الْعَمَلُ بِالْأُجْرَةِ لَمْ يَبْقَ عِبَادَةً لِلَّهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مُسْتَحَقًّا بِالْعِوَضِ مَعْمُولًا  لِأَجْلِهِ .  وَالْعَمَلُ إذَا عُمِلَ لِلْعِوَضِ لَمْ يَبْقَ  عِبَادَةً : كَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ . فَمَنْ  قَالَ : لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ  عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ  قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا  عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ . كَمَا لَا يَجُوزُ إيقَاعُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ  وَالْقِرَاءَةِ  عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالِاسْتِئْجَارُ يُخْرِجُهَا عَنْ  ذَلِكَ .  وَمَنْ جَوَّزَ  ذَلِكَ  قَالَ :  إنَّهُ نَفْعٌ يَصِلُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ  فَجَازَ  أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ :  كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ  .  قَالَ : وَإِذَا  كَانَتْ لَا عِبَادَةَ  فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا تَقَعُ  عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فَيَجُوزُ إيقَاعُهَا  عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ ; لِمَا  فِيهَا  مِنْ النَّفْعِ .  وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ  الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ - وَهُوَ  أَقْرَبُ -  قَالَ :  الْمُحْتَاجُ إذَا اكْتَسَبَ بِهَا  أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَمَلَهَا لِلَّهِ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهَا  عَلَى الْعِبَادَةِ ;  فَإِنَّ الْكَسْبَ  عَلَى  الْعِيَالِ وَاجِبٌ أَيْضًا فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ بِهَذَا ; بِخِلَافِ الْغَنِيِّ  لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَسْبِ  فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُ أَنْ يَعْمَلَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ  ; بَلْ إذَا  كَانَ اللَّهُ قَدْ  أَغْنَاهُ  وَهَذَا فُرِضَ  عَلَى الْكِفَايَةِ :  كَانَ هُوَ مُخَاطَبًا  بِهِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ إلَّا  بِهِ  كَانَ  ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا . وَاَللَّهُ  أَعْلَمُ . 
							
				 
            