تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النُّصُوصَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ أَشْكَلِ الْأَشْيَاءِ لِنُنَبِّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَالْفَرَائِضُ مِنْ أَشْكَلِهَا . فَنَقُولُ : النَّصُّ وَالْقِيَاسُ - وَهُمَا الْكِتَاب وَالْمِيزَانُ - دَلَّا عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَدُ الْأُمِّ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَرَوَى حَرْبٌ التَّشْرِيكَ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى قِيلَ : إنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ إلَّا عَلِيًّا وَزَيْدًا ; فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ وَزَيْدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ يُشْرِكُ . قَالَ الْعَنْبَرِيُّ : الْقِيَاسُ مَا قَالَ عَلِيٍّ وَالِاسْتِحْسَانُ مَا قَالَ زَيْدٍ . قَالَ الْعَنْبَرِيُّ : هَذِهِ وَسَاطَةٌ مَلِيحَةٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ . فَيُقَالُ : النَّصُّ وَالْقِيَاسُ دَلَّا عَلَى مَا قَالَ عَلِيٍّ . أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَالْمُرَادُ بِهِ : وَلَدُ الْأُمِّ وَإِذَا أَدْخَلَنَا فِيهِمْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي الثُّلُثِ ; بَلْ زَاحَمَهُمْ غَيْرُهُمْ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ فَهُوَ غَلَطٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } الْآيَةَ . وَفِي قِرَاءَةِ سعد وَابْنِ مَسْعُودٍ ( مِنْ الْأُمِّ وَالْمُرَادُ بِهِ وَلَدُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ . وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَبِ فِي آيَةٍ فِي قَوْلِهِ : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } فَجَعَلَ لَهَا النِّصْفَ وَلَهُ جَمِيعَ الْمَالِ وَهَكَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَهَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ ; لَا الْأُمِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَدَلَّ ذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ . وَإِذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ أَعْطَى وَلَدَ الْأُمِّ الثُّلُثَ فَمَنْ نَقَصَهُمْ مِنْهُ فَقَدْ ظَلَمَهُمْ . وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ جِنْسٌ آخَرُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ تَبْقَ الْفَرَائِضُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ شَيْءٌ وَهُنَا لَمْ تَبْقَ الْفَرَائِضُ شَيْئًا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ أَبَاهُمْ كَانَ حِمَارًا فَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي الْأُمِّ . فَقَوْلٌ فَاسِدٌ حِسًّا وَشَرْعًا . أَمَّا الْحِسُّ : فَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ حِمَارًا لَكَانَتْ الْأُمُّ أَتَانًا وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي آدَمَ . وَإِذَا قِيلَ : مُرَادُهُ أَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ فَيُقَالُ : هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْوُجُودَ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا . وَأُمًّا الشَّرْعُ : فَلِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فِي وَلَدِ الْأُمِّ وَإِذَا قِيلَ ; فَالْأَبُ . إذَا لَمْ يَنْفَعْهُمْ لَمْ يَضُرَّهُمْ ؟ قِيلَ : بَلَى . قَدْ يَضُرُّهُمْ كَمَا يَنْفَعُهُمْ ; بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ وَاحِدًا وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَثِيرِينَ ; فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ وَحْدَهُ يَأْخُذُ السُّدُسَ وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُمْ كُلَّهُ وَلَوْلَا الْأَبُ لَتَشَارَكُوا هُمْ وَذَاكَ الْوَاحِدُ فِي الثُّلُثِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْأَبِ يَنْفَعُهُمْ جَازَ أَنْ يَحْرِمَهُمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُ يَضُرُّهُمْ . وَأَيْضًا فَأُصُولُ الْفَرَائِضِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَّصِلَةَ : ذَكَرٌ وَأُنْثَى لَا تُفَرِّقُ أَحْكَامُهَا . فَالْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لَا يَكُونُ كَأَخٍ مِنْ أَبٍ وَلَا كَأَخٍ مِنْ أُمٍّ وَلَا يُعْطَى بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَحْدَهَا كَمَا لَا يُعْطَى بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَحْدَهُ ; بَلْ الْقَرَابَةُ الْمُشْتَرِكَةُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ; وَإِنَّمَا يُفْرَدُ إذَا كَانَ قَرَابَةً لِأُمِّ مُنْفَرِدًا مِثْلَ ابْنَيْ عَمَّ : أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمِّ فَهُنَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ لِلْأَخِ لِأُمِّ السُّدُسُ وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْبَاقِي وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ وَرُوِيَ عَنْ شريح : أَنَّهُ جَعَلَ الْجَمِيعَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : كِلَاهُمَا فِي بُنُوَّةِ الْعَمِّ سَوَاءٌ هُمَا ابْنَ عَمٍّ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَبٍ وَالْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُقْتَرِنَةً حَتَّى يُجْعَلَ كَابْنِ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُكْمَ فِي " مَسْأَلَةِ الْمُشْرِكَةِ " أَنْ لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أَخَوَاتٌ مِنْ أَبٍ لَفُرِضَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَعَالَتْ الْفَرِيضَةُ ; فَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخُوهُنَّ سَقَطْنَ وَيُسَمَّى " الْأَخُ الْمَشْئُومُ " فَلَمَّا صِرْنَ بِوُجُودِهِ يَصِرْنَ عَصَبَةً : صَارَ تَارَةً يَنْفَعُهُنَّ . وَتَارَةً يَضُرُّهُنَّ ; وَلَمْ يُجْعَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حَالَةِ الضُّرِّ . كَذَلِكَ قَرَابَةُ الْأَبِ لَمَّا الْإِخْوَةُ بِهَا عَصَبَةٌ صَارَ يَنْفَعُهُمْ تَارَةً وَيَضُرُّهُمْ أُخْرَى . فَهَذَا مَجْرَى " العصوبة " فَإِنَّ الْعَصَبَةَ تَارَةً يَحُوزُ الْمَالَ كُلَّهُ وَتَارَةً يَحُوزُ أَكْثَرَهُ ; وَتَارَةً أَقَلَّهُ وَتَارَةً لَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ وَهُوَ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفَرَائِضُ الْمَالَ . فَمَنْ جَعَلَ الْعَصَبَةَ تَأْخُذُ مَعَ اسْتِغْرَاقِ الْفَرَائِضِ الْمَالَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْفَرَائِضِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هُوَ اسْتِحْسَانٌ . يُقَالُ هَذَا اسْتِحْسَانٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ; فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ; حَيْثُ يُؤْخَذُ حَقُّهُمْ فَيُعْطَاهُ غَيْرُهُمْ . وَالْمُنَازِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ حَكَمَ بِهَا فَعَمِلَ بِذَلِكَ مَنْ عَمِلَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة وَغَيْرِهَا كَمَا عَمِلُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ . وَعَمِلُوا بِقَوْلِ زَيْدٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَرَائِضِ تَقْلِيدًا لَهُ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ . وَبَعْضُهُمْ يَحْتَجُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { أَفْرَضُكُمْ زيد } . وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ; لَا أَصْلَ لَهُ . وَلَمْ يَكُنْ زيد عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا بِالْفَرَائِضِ . [ حَتَّى أَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ ] إلَّا قَوْلُهُ : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ } . وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُهُمْ لِزَيْدِ فِي " الْجَدِّ " مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ . فَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ مُوَافِقُونَ لَلصِّدِّيقِ فِي أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . اخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا الْمُوَرِّثُونَ لِلْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ فَهُمْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ قَوْلٌ انْفَرَدَ بِهِ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي أَمْرِهِ . وَالصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ قَوْلُ الصِّدِّيقِ ; لِأَدِلَّةِ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .