تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ الله فَصْلٌ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ : الْخِلْقِيَّةُ والكسبية . الشَّرْعِيَّةُ ; وَالشَّرْطِيَّةُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ خَلْقِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ; وَأَنَّ زَوْجَهَا مَخْلُوقٌ مِنْهَا وَأَنَّهُ بَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ : أَكْمَلُ الْأَسْبَابِ وَأَجَلُّهَا ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَخْلُوقَةِ الشَّرْعِيَّةِ : كَالْوِلَادَةِ وَمِنْ الكسبية الشَّرْطِيَّةِ : كَالنِّكَاحِ ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ السَّلَفِ : { تَسَاءَلُونَ بِهِ } تَتَعَاهَدُونَ بِهِ وَتَتَعَاقَدُونَ . وَهُوَ كَمَا قَالُوا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْهُدْنَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْآخَرَ مَطْلُوبَهُ : هَذَا يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ . وَهَذَا تَسْلِيمَ الثَّمَنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَطْلُوبَ الْآخَرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا طَالِبٌ مِنْ الْآخَرِ مُوجِبٌ لِمَطْلُوبِ الْآخَرِ . ثُمَّ قَالَ : { وَالْأَرْحَامَ } . و " الْعُهُودُ " و " الْأَرْحَامُ " : هُمَا جِمَاعُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ ; فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي بَيْنَهُمْ : إمَّا أَنْ تَكُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ أَوْ بِفِعْلِهِمْ . فَالْأَوَّلُ " الْأَرْحَامُ " و الثَّانِي " الْعُهُودُ " وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ ; فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } فَالْإِلُّ : الْقَرَابَةُ وَالرَّحِمُ . وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } . وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي الْحَقَّيْنِ . وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِمَا ; وَلِهَذَا قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ { اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ وَخَلَقَ أَبَوَيْهِ وَخَلَقَهُ مِنْ أَبَوَيْهِ . فَالسَّبَبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هُوَ الْخِلْقِيُّ التَّامُّ ; بِخِلَافِ سَبَبِ الْأَبَوَيْنِ ; فَإِنَّ أَصْلَ مَادَّتِهِ مِنْهُمَا وَلَهُ مَادَّةٌ مِنْ غَيْرِهِمَا ; ثُمَّ إنَّهُمَا لَمْ يُصَوِّرَاهُ فِي الْأَرْحَامِ . وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مَادَّةٌ إلَّا مِنْ أَبَوَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ خَالِقُهُ وَبَارِئُهُ وَمُصَوِّرُهُ وَرَازِقُهُ وَنَاصِرُهُ وَهَادِيهِ ; وَإِنَّمَا حَقُّ الْأَبَوَيْنِ فِيهِ بَعْضُ الْمُنَاسَبَةِ لِذَلِكَ ; فَلِذَلِكَ قَرَنَ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ بِحَقِّهِ فِي قَوْلِهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَفِي قَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَرُّؤَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ كُفْرًا ; لِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ الرَّبِّ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلِهِ : { كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ } . فَحَقُّ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ تَقَدَّمَهُ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقُّ الْقَرِيبِ الْمُجِيبِ الرَّحْمَنِ ; فَإِنَّ غَايَةَ تِلْكَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ ; { أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ } وَقَالَ : { الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ } وَقَالَ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الرَّحِمَ تَعَلَّقَتْ بِحِقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ } . وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا } إنَّ " الْإِلَّ " الرَّبُّ كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ : إنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ . وَأَمَّا دُخُولُ حَقِّ الرَّبِّ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ . فَكَدُخُولِ الْعَبْدِ فِي السَّلَامِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ; فَإِنَّ هَذَا عَهْدُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْعُهُودِ وَأَوْكَدُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا