تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَا صِفَةُ النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا لِلْأَوَّلِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مُثَابِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ .
1
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إذَا وَقَعَ بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَبَ . وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ أَوْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ - مِثْلَ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ بِمَكَانِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ دِينَ الْإِسْلَامِ ; فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ أَوْ عَلَى اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفِعْلِ : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وُجُوبَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَحِلَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْأُمَّةِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . وَظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَمَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَ " مَبَانِي الْإِسْلَامِ " مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحِجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ جَحَدَ " تَحْرِيمَ الظُّلْمِ وَأَنْوَاعِهِ " كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ " نِكَاحِ الْأَقَارِبِ " سِوَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَتَحْرِيمَ " الْمُحَرَّمَاتِ بِالْمُصَاهَرَةِ " وَهُنَّ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ حِلَّ الْخُبْزِ . وَاللَّحْمِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ ; وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَتْ إبَاحَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ لَا سُنِّيُّهُمْ وَلَا بِدْعِيُّهُمْ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ " مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فِي " الْحَرَامِ " هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ " كَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْبَتَّةِ : هَلْ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ ثَلَاثٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْمُولِي " : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِ فِيهَا ؟ أَمْ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ ؟ وَكَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ . وَالْمُكْرَهُ وَفِي الطَّلَاقِ بِالْخَطِّ وَطَلَاقِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَطَلَاقِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَطَلَاقِ الْحَكَمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ . كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَذْلِ أَجْرِ الْعِوَضِ بِدُونِ تَوْكِيلِهَا . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعُلَمَاءُ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي مَسَائِلِ " تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ " وَمَسَائِلِ " الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِأَلْفِ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " مُطْلَقًا فِي مُوجَبِ الْيَمِينِ وَهَذَا كَتَنَازُعِهِمْ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ : هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ؟ أَوْ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعِ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ النِّكَاحِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : يَقَعُ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ كَوْنِهِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ . وَعَدَمُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ . فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : إنْ أعطيتيني أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ الْحَجُّ . وَأَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِمِائَةِ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ ; بَلْ مَقْصُودُهُ عَدَمُ الشَّرْطِ وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ كَمَا إذَا قَالَ : لَا أُسَافِرُ وَإِنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ الصَّوْمُ أَوْ الْحَجُّ أَوْ الصَّدَقَةُ أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ; عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : كَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ أَبِي الْعُمَرِ وَغَيْرِهِمَا . وَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ أَمْ يَجْزِيهِ الْوَفَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ; وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ داود وَابْنِ حَزْمٍ . وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعِتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ . هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ أَوْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ; بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً ; وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخِطَابَيْ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ و " الثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .