تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ عَلَى " النِّكَاحِ السِّرِّ " فَإِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مِنْ جِنْسِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ شَبِيهٌ بِهِ لَا سِيَّمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا ذَلِكَ : فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَتَّخِذُ صَدِيقَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ هَذَا فَلَا يَشَاءُ مَنْ يَزْنِي بِأَمَرَةِ صَدِيقَةٍ لَهُ إلَّا قَالَ : تَزَوَّجْتهَا . وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ تَزَوَّجَ فِي السِّرِّ : إنَّهُ يَزْنِي بِهَا إلَّا قَالَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ مُبِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } فَإِذَا ظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَدْ أَحْصَنَهَا تَمَيَّزَتْ عَنْ الْمُسَافِحَاتِ وَالْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا وَإِذَا كَانَ يُمَكِّنُهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى الْأَجَانِبِ لَمْ تَتَمَيَّزْ الْمُحْصَنَاتُ كَمَا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نِكَاحَهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ لَمْ تَتَمَيَّزْ مِنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا فَقِيلَ : الْوَاجِبُ الْإِعْلَانُ فَقَطْ سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : الْوَاجِبُ الْإِشْهَادُ سَوَاءٌ أَعْلَنَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجِبُ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجِبُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ عَنْ أَحْمَد . وَاشْتِرَاطُ " الْإِشْهَادِ " وَحْدَهُ ضَعِيفٌ ; لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ حَدِيثٌ . وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا لَهُ شُرُوطٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا شَرْطًا كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ فَتَبَيَّنَ ] أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مناكحهم . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ شَيْءٌ وَلَوْ أَوْجَبَهُ لَكَانَ الْإِيجَابُ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ إظْهَارُهَا وَإِعْلَانُهَا فَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ أَوْلَى ; فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهُ فِي الْعَقْدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ : وَلَمْ يُضَيِّعُوا حِفْظَ مَا لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ تَتَوَافَرُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِحِفْظِ ذَلِكَ . وَهُمْ قَدْ حَفِظُوا نَهْيَهُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ قَلِيلًا ; فَكَيْفَ النِّكَاحُ بِلَا إشْهَادٍ إذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَدْ حَرَّمَهُ وَأَبْطَلَهُ كَيْفَ لَا يُحْفَظُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَوْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَكَانَ مَرْدُودًا عِنْدَ مَنْ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعْظَمَ مِنْ الْبَلْوَى بِكَثِيرِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِكَاحٍ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِشْهَادِ ; وَقَدْ عَقَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ ; فَعُلِمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِشْهَادِ دُونَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ قَطْعًا ; وَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرِطُونَ لِلْإِشْهَادِ مُضْطَرِبِينَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يَثْبُتُ عَلَى مِعْيَارِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ عِنْدَهُمْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِإِشْهَادِ ذَوِي الْعَدْلِ فَكَيْفَ بِالْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ . ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ " بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ " وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي النِّكَاحِ ثُمَّ يَأْمُرُونَ بِهِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الرَّجْعَةِ وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ ; لِئَلَّا يُنْكَرَ الزَّوْجُ وَيَدُومُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيُفْضِي إلَى إقَامَتِهِ مَعَهَا حَرَامًا ; وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى طَلَاقٍ لَا رَجْعَةَ مَعَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانِ عقيب الْعِدَّةِ فَيَظْهَرُ الطَّلَاقُ . وَلِهَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِمَّا يَعِيبُ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ ; وَهُمْ أُمِرُوا بِهِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِإِشْهَادِ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعْلَانِ فَأَغْنَى إعْلَانُهُ مَعَ دَوَامِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَكَانَ هَذَا الْإِظْهَارُ الدَّائِمُ مُغْنِيًا عَنْ الْإِشْهَادِ كَالنَّسَبِ ; فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ أَحَدًا عَلَى وِلَادَةِ امْرَأَتِهِ ; بَلْ هَذَا يَظْهَرُ وَيَعْرِفُ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ هَذَا فَأَغْنَى هَذَا عَنْ الْإِشْهَادِ ; بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; فَإِنَّهُ قَدْ يُجْحَدُ وَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ كَانَ إعْلَانُهُ بِالْإِشْهَادِ . فَالْإِشْهَادُ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ بِهِ يُعْلَنُ وَيَظْهَرُ ; لَا لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ; بَلْ إذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ خَرَجَا فَتَحَدَّثَا بِذَلِكَ وَسَمِعَ النَّاسُ أَوْ جَاءَ الشُّهُودُ وَالنَّاسُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا : كَانَ هَذَا كَافِيًا . وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَةُ السَّلَفِ لَمْ يَكُونُوا يُكَلِّفُونَ إحْظَارَ شَاهِدَيْنِ وَلَا كِتَابَةَ صَدَاقٍ وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ مِنْ اشْتِرَاطِ شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا مَنْ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ : فَهَذَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ . وَقَدْ شَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَوْجَبَ مَنْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ ; وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ فِيهَا هَذَا . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى قَوْلِهِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ . فَقِيلَ : يُجْزِئُ فَاسِقَانِ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يُجْزِئُ مَسْتُورَانِ وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : فِي الْمَذْهَبِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ . وَقِيلَ : بَلْ إنْ عَقَدَ حَاكِمٌ فَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا بِمَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ; فَإِنَّ الْحُكَّامَ هُمْ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَبْرُورِ وَالْمَسْتُورِ . ثُمَّ الْمَعْرُوفُ الْعَدَالَةِ عِنْدَ حَاكِمِ الْبَلَدِ : فَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : حَيْثُ يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُهُمْ . وَإِنْ اشْتَرَطُوا مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِالْخَيْرِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَدْلِ لِمَقْبُولِ الشَّهَادَةَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . ثُمَّ الشُّهُودُ يَمُوتُونَ وَتَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الْفِرَاشِ عِنْدَ التجاحد حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ . فَيُقَالُ : هَذَا حَاصِلٌ بِإِعْلَانِ النِّكَاحِ وَلَا يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا . فَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مَعَ الْإِعْلَانِ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ . وَأَمَّا مَعَ الْكِتْمَانِ وَالْإِشْهَادِ فَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ . فَهَذَا الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ . وَإِنْ خَلَا عَنْ الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ : فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ فَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ قَلِيلٌ . وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ; ثُمَّ يُقَالُ مَا يُمَيِّزُ هَذَا عَنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا . وَفِي الْمُشْتَرِطِينَ لِلشَّهَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ لَا يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ ; لَكِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حُضُورَ اثْنَيْنِ تَعْظِيمًا لِلنِّكَاحِ . وَهَذَا يَعُودُ إلَى مَقْصُودِ الْإِعْلَانِ . وَإِذَا كَانَ النَّاسُ مِمَّنْ يَجْهَلُ بَعْضُهُمْ حَالَ بَعْضٍ وَلَا يَعْرِفُ مَنْ عِنْدَهُ هَلْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ خَدِينُهُ مِثْلُ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ الْمَجَاهِيلُ : فَهَذَا قَدْ يُقَالُ : يَجِبُ الْإِشْهَادُ هُنَا . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ " صَدَاقَاتٍ " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَزَوَّجُونَ عَلَى مُؤَخَّرٍ ; بَلْ يُعَجِّلُونَ الْمَهْرَ وَإِنْ أَخَّرُوهُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ ; فَلَمَّا صَارَ النَّاسُ يَتَزَوَّجُونَ عَلَى الْمُؤَخَّرِ وَالْمُدَّةُ تَطُولُ وَيُنْسَى : صَارُوا يَكْتُبُونَ الْمُؤَخَّرَ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الصَّدَاقِ ; وَفِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ ; لَكِنَّ هَذَا الْإِشْهَادَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ ; سَوَاءٌ حَضَرَ الشُّهُودُ الْعَقْدَ أَوْ جَاءُوا بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلِيِّ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نِكَاحٌ قَدْ أُعِلْنَ وَإِشْهَادُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاصٍ بِكِتْمَانِهِ إعْلَانٌ . وَهَذَا بِخِلَافِ " الْوَلِيِّ " فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ إنَّمَا كَانَ يُزَوِّجُ النِّسَاءَ الرِّجَالُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ امْرَأَةً تُزَوِّجُ نَفْسَهَا . وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ : لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ; فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا . لَكِنْ لَا يَكْتَفِي بِالْوَلِيِّ حَتَّى يُعْلِنَ ; فَإِنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا عَلَى قَرَابَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى كَمَا خَاطَبَهُمْ بِتَزْوِيجِ الرَّقِيقِ . وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } . وَهَذَا الْفَرْقُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الصَّدَاقَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُوجِبْ الْإِشْهَادَ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الْإِشْهَادِ : فَقَدْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي تَحْرِيمِهِمْ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " وَأَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْمَهْرِ فَحَيْثُ يَكُونُ الْمَهْرُ : فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ وَهُوَ أَنَصّ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَصْرَحُهُمَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَاخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ - كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - عَلَى مَا خَالَفَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ ; لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ فَعَلُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَاجْتَهَدُوا وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ : فَآجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ; وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ أَفْضَلَ مِمَّنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرَانِ وَأُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَمَنْ تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا مُفَسِّرَةً لِأَمْرِ النِّكَاحِ لَا تَشْتَرِطُ فِيهِ مَا يَشْتَرِطُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ; كَمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ : أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ . وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ : أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَاشْتَرَطَ هَؤُلَاءِ وَطَائِفَةٌ : أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . ثُمَّ صَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تُصَحِّحُ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " لِأَنَّهُ لَا مُفْسِدَ لَهُ إلَّا نَفْيُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُفْسِدِ عِنْدَهُمْ . وَطَائِفَةٌ تُبْطِلُهُ وَتُعَلِّلُ ذَلِكَ بِعِلَلِ فَاسِدَةٍ ; كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَصَحَّحُوا " نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ " الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ فَكَانَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا فِي النِّكَاحِ وَلَا إشْهَادَ شَاهِدِينَ مَعَ إعْلَانِهِ وَإِظْهَارِهِ وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَار وَكُلَّ نِكَاحٍ نُفِيَ فِيهِ الْمَهْرُ وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلَ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ الْحِجَازِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَسَّعُوا " بَابَ الطَّلَاقِ " فَأَوْقَعُوا طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَالطَّلَاقَ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَأَوْقَعَ هَؤُلَاءِ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَهَؤُلَاءِ الطَّلَاقَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ فِيمَا حَلَفَ بِهِ وَجَعَلُوا الْفُرْقَةَ الْبَائِنَةَ طَلَاقًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَجَعَلُوا الْخُلْعَ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ . إلَى أُمُورٍ أُخْرَى وَسَّعُوا بِهَا الطَّلَاقَ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَضَيَّقُوا النِّكَاحَ الْحَلَالَ . ثُمَّ لَمَّا وَسَّعُوا الطَّلَاقَ صَارَ هَؤُلَاءِ يُوَسِّعُونَ فِي الِاحْتِيَالِ فِي عَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَهَؤُلَاءِ لَا سَبِيلَ عِنْدَهُمْ إلَى رَدِّهَا ; فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ وَهَؤُلَاءِ فِي خِدَاعٍ وَاحْتِيَالٍ . وَمَنْ تَأَمَّلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ هَذَا وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .