تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } وَقَدْ أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ التَّزْوِيجَ بالنصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ : فَهَلْ هُمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؟ أَمْ لَا ؟
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ . وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ شُرَكَاءَ أَعْظَمَ مِمَّنْ تَقُولُ إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . وَهُوَ الْيَوْمُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبِقَوْلِهِ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُشْرِكِينَ فَجُعِلَ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ كَمَا قَالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَحَيْثُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ تَمَيُّزُهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ اتِّبَاعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِالتَّوْحِيدِ ; لَا بِالشِّرْكِ : فَإِذَا قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْرِكِينَ ; فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أُضِيفُوا إلَيْهِ لَا شِرْكَ فِيهِ كَمَا إذَا قِيلَ : الْمُسْلِمُونَ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ . لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ; لَا اتِّحَادٌ وَلَا رَفْضٌ وَلَا تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ فِي الْأُمَّةِ قَدْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ ; لَكِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْحِيدِ ; بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِالِاسْمِ بَلْ قَالَ : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } بِالْفِعْلِ وَآيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ فِيهَا : وَالْمُشْرِكِينَ و وَالْمُشْرِكَاتِ بِالِاسْمِ . وَالِاسْمُ أَوْكَدُ مِنْ الْفِعْلِ الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : إنْ شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ : فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا وَمَقْرُونًا ; فَإِذَا أُفْرِدُوا دَخَلَ فِيهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِذَا قُرِنُوا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِمْ كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي اسْمِ " الْفَقِيرِ " و " الْمِسْكِينِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا يُقَالُ : آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةٌ وَتِلْكَ خَاصَّةٌ . وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَالْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تَنْسَخُ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ إذَا تَعَارَضَتَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُمْتَحَنَةِ " وَأَمَرَ بِامْتِحَانِ الْمُهَاجِرِينَ . وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ كَافِرَةٌ . و " اللَّامُ " لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْكَوَافِرُ الْمَعْهُودَاتُ هُنَّ الْمُشْرِكَاتُ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُمَيِّزُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } فَإِنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ هُوَ الْإِيمَانُ ; وَلَكِنْ هُمْ كَفَّرُوا مُبْتَدِعِينَ الْكُفْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .